كان تعامل المصطفى صلى الله عليه وسلم مع خير الأجيال، وأفضل الأصحاب؛ صحابته عليهم رضوان الله قدوة وأسوة حسنة لنا جميعا إن أردنا الفوز والنجاح في ديننا ودنيانا؛ فيلاطفهم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ويصافي ويعطي ويبذل ويدعوا ويصفح ويسامح ويلتمس العذر..، ولا يمنعه عظيم خلقه، ولا خفض الجناح لأصحابه ولا الرحمة بهم ولا مودتهم، أن يبين لأحدهم عدم قدرته على تنفيذ أمر أراده، ولا رد طلبه في مالا يستحقه، أو ليس بأفضل من يقوم به، فقد كان صلى الله عليه وسلم صارما في الحق صلبا فيه لا يجاوزه، ففي الطبقات الكبرى لابن سعد أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم استعماله على بعض ما ولاه الله فقال له: " يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ النَّبِيِّ نَفْسٌ تُنْجِيهَا خَيْرٌ مِنْ إِمَارَةٍ لَا تُحْصِيهَا"، ولم يستعمله مع استعمال غيره، ولم ينقص ذلك من فضل عم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أمَّر النبي صلى الله عليه وسلم عمرو ابن العاص على جيش ذات السلاسل، وبه كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، منهم سعد بن أبي وقاص وسعد بن عبادة و أسيد بن حضير، ومده بآخرين بقيادة أبي عبيدة بن الجراح رفقة أبي بكر وعمر، وجيش أسامة ابن زيد قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على حداثة سنه به أبو بكر وعمر وغيرهم، وبعد تولية أبي بكر أنفذه بمن انتدبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم له، واستأذن منه إبقاء عمر معه، كل هذا حسب الفقهاء مما يؤكد إمكانية تأمر المفضول، وأن المسؤولية في تسيير الشأن العام الهدف منها إصلاح شؤون المجتمع وتنميته، ويتولاها من يحسنها ولا حرج في تكليف المفضول بدل الأفضل في تسيير الشؤون الجارية، فقد عزل خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمين الأمة أبا عبيدة بن الجراح عن قيادة الجيوش بعدما حشد الروم لهم بأجنادين وولى خالد ابن الوليد مكانه...
وتسيير المصادر البشرية أو الموارد أو الدول والمجتمعات مسالة أخرى، لا تقتضي بالضرورة أن يكون الناجح فيها هو الأفضل عند الله، ولا حتى عند الناس، كما أن مقدرة الشخص على بسط الأفكار، وتأصيلها وتسبيب النتائج ورد الفروع إلى أصلها، إن كانت تجعل منه محاضرا مفوها أو مؤلفا متمكنا، أو ناقدا مسددا لا ينبغي أن تكون فقط كافية لجعله مديرا أو وزيرا ناجحا، أو أن تجعل تسييره لمسؤولياته الوظيفية موفقا، بل كثيرا ما تكون الفئة الأولى أعظم أثرا في الوظائف الاستشارية والرقابية منها في الوظائف التنفيذية..
فقد كان أبو ذر رضي الله عنه نعم الواعظ والناصح للأمراء والخلفاء، والداعي للزهد والتعفف حتى ضاق به الولاة ثم ضاق به الخليفة الراشد، وقد ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "لَمْ يَبْقَ الْيَوْمَ أَحَدٌ لَا يُبَالِي فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ غَيْرَ أَبِي ذَرٍّ، وَلَا نَفْسِي" ، ويكفيه فضلا ما رواه ابن ماجه وصححه الألباني من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ، وَلَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ، مِنْ رَجُلٍ أَصْدَقَ لَهْجَةً مِنْ أَبِي ذَرٍّ "، وبالرغم من ذلك فإنه رضي الله عنه حدَّث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا أَبَا ذَرٍّ، إني أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لك ما أُحِبُّ لِنَفْسِي، لَا تَأَمَّرَنَّ على اثْنَيْنِ، ولا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ". رواه مسلم
هذا التعامل الراقي والعادل هو الذي ينبغي أن يُتأسى به، فلا يُسند الأمر إلا لأهله العارفين به والمؤتمنين على القيام به، وإن تبين أن المكلف لم يكن القوي القادر على العمل أو لم يكن مؤتمنا عليه، فلا ينبغي التمادي في تركه يفسد ما كان يرجى إصلاحه..
وتجربة الشخص الوظيفية إما أن تكون مدعاة لتكليفه بغيرها وربما أكبر منها وأكثر، وإما أن تكون مدعاة لغير ذلك، والضابط في كل هذا هو النجاح أو الفشل، فمن كُلف بتسيير ملفات أو هيئات أو وزارة وفشل في تنفيذ مهامه، سواء لعدم كفاءته أو لضعفه أو لغيرهما كل هذا يعطي نفس النتيجة، فكما يقال: الفشل مُنْبَتٌ والنجاح متعدد الآباء، فقلما يتحمل الفاشل نتيجة فشله بل عادة ما يلقي باللوم على غيره، ولا أريد البسط كثيرا في هذا الموضوع ولا إيراد الأمثلة، بل ما يهمني هنا أن كثيرا من المواطنين ومنذ فاتح أغشت الماضي ينتظرون التصحيح والإصلاح وقد قيم بقدر لا بأس به من العمل، إلا أن تراكم الأخطاء وتكرارها يحولها من أخطاء يرجى إصلاحها إلى عدم كفاءة يلازم صاحبها، والوقت وقت جد لا يتحمل الكثير من المناكفات والمجاملات فنأمل و نرجوا أن يعاد النظر في من يتولى تسيير شؤون المرحلة الآن، فقد كثرت الأخطاء وبددت الأموال وتآكلت الثقة في كثير منهم، بالرغم من حسن ظننا بقصد البعض على الأقل، إلا أن حسن الظن وحده للأسف لا يبنى الأوطان ولا تجابه به الكوارث..
فالرقابة والمتابعة والتقييم والتغيير في وقته، والتوجيه ضرورة للنجاح ومن ثم المحافظة عليه، والأخطاء كلما كثرت وتراكمت نزعت البركة من العمل وخرقت سياج الثقة وأفسدته، فالثقة يصعب بناؤها ويستحيل أو يكاد يعاد ذلك البناء..
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".
حفظ الله بلادنا من كل سوء وأزال عنها زيغ أهل الفساد، وغفلة الصلحاء، وطول صبر أهل الحلم على رعونة السفهاء.