ما هي أسباب الفساد عندنا ،هل هو وباء نزل من السماء فا اختلط بالأرض، فأفسد الاقتصاد وخرب البلاد،وعاث في الممتلكات وتشربته العقليات؟
أم أنه سلوك مريض دافع أصحابه الجشع والطمع،ركيزتهم حب الذات والأثرة والأنانية؟ أغراهم على ارتكابه غياب الوازع،وعدم الخوف من الرادع ، واستبعاد المحاسبة والمكاشفة.
ماهو السر وراء تجذر الفساد في بلدنا ؟
إن من يريد أن يفهم سر ذلك التغول، ويقف على أمر ذلك التحول،ومصدر ذلك التمول، فإن السر العجيب، والأمر الغريب، يكمن فيما يلي :
ــالتوظيف السياسي لغير أصحاب الكفآت الذي دأب عليه الحكم الفائت ،وجر مآس كبيرة على البلاد والعباد والشجر والدواب،والمدن والبوادي والأرياف والنوادي، ينجُم عنه وضع من ليست له كفاءة وليست عنده نزاهة، تعطى له مسئولية كبيرة، وأمانة خطيرة، وهو ليس له نظر،ولا له فكر ولا عقل ،ولا كرامة ولا نبل،ولا وطنية ولا غيرة، مصيبة تحل على الوزارة،وبلية تجعل على الإدارة،يفكر بعقل التاجر، ويخطط بتخطيط الفاجر،لا يجيز صفقة إلا ما كان له فيه غبطة،ولا يوقع اتفاقا، إلا ما كان له فيه ناقة، يحيل ميزانية مؤسسته، للبنك الذي يوظف من أسرته ويعين من مجموعته.
يأتي الوظيفة، بتبعات الحملة ،وقضاء الرغبة،مثل تغيير العتبة، وتبديل الدار وسيارة، كل هذا يشغل باله، ويحرك وجدانه، ويهز كينونته ويمتحن رجولته،و يبحث لكل تلك الرغبات عن منفذ، ويفكر لها في حل، فتنهار المؤسسة وتنكمش الميزانية، ويصيح العمال وينتشر الهزال،نتيجة طبيعية لتولية الخوين وتنحية الأمين، مآل متوقع، ومصير محقق حين تضيع الأمانة ويسمح للخيانة، فتشرع أبواب الفساد،وتمتد جسور الخراب، فيدخل الفساد منخر المؤسسات ويخرج من ذيل الإدارات، فتعقد الصفقات وتلحس الميزانيات.وتشفط العوائد وتؤكل الفوائد.تضرب مصداقية المؤسسة في الصميم،وينال عمالها العذاب الأليم،فتنقص أجورهم، وتتدهور أمورهم، يقاسون المرارة ويتجرعون الخسارة، تنتكس معنوياتهم، وتصعب معاشتهم، ويشاهدون السعير، ويكابدون الزمهرير، بأجساد متعبة، وعقول مشتتة، ونفوسة معذبة، وأمور معقدة، لا ترى منهم إلا كاظما لغيظه، كابتا لألمه،جامحا لغضبه، قابضا على جمرته،مكفكفا لعبرته، رابطا على قلبه،شاهدا على ظلمه،صابرا على حزنه كاعما لغضبه؛لأنه إذا أبدى لهم صفحته تقترب محنته،و تعجل موتته، ويكون بحث عن حتفه بظلفه؛ فيستعدي عليه المدير ويؤلب عليه الغفير،فيتخلى عنه الخفير، ويكون في أحسن أحواله من أهل الجحيم ويتلقى العذب الأليم ،فيجعل في المرآب، ليناله العذاب وينطق عليه الكتاب، فهو بنظرهم ناكر للجميل، حسود عميل.لا يستحق مكانته وخائن أمانته،والحقيقة أن أمانة هذا السيد، وهذا الرجل الجيد،لوا قسمت عليهم لو سعتهم،أعني أصحاب النياشين المفسدين الخائنين،هذا المسكين لا هو في دولة فينال حقه، ولا هو في غابة فيتدبر أمره،و يستعد بعدته قبل إتيان منيته،دولة تسلَّطَ اللُّصوصُ فيها على المؤسسات، وتولي السُّراق فيها أمر الميزانيات، فلن يحرس الذئب الغنم، ولن يرعى الأسد الذمم........
ـــ من أسباب الفساد كذلك أشكال من التجار،وأنواع من الفجار، هم سوس المؤسسات،ووقود الحملات ورُهاب المنشآت،يتم التعامل معهم،وعقد الصفقات لهم،فيكثر الطمع والجشع، فيشغل الواحد منهم أهل المؤسسة بعبثه،ولهوه، وهزله، ويغريهم بالفساد، ويشجعهم على ارتكابه......
يفتح الواحد من هؤلاء مؤسسة، محلا أو تجارة،ويبدأ بالتزيي بزي أهل الوزارة، وركوب تلك الحمارة ،فيُهَذِّبُ من لحيته، ويُرَتِّبُ من هيئته،ويتكلم مع القوم في السياسة ويناقشهم في الحماسة، مدعيا شموليته، وفي كل فن نبوغيته، يتحدث في المال والأعمال ويتكلم في الحرام والحلال،وفي القانون وأنواع الفنون، ويناظر في الفلسفة ويوازن في الفعللة، ويتصدى لعويصات الأمور، وغريبات الدهور،كأنه وهو في مكتب المسئول عالم بكل ما يجول، متبحر في اللغة، متخصص في الاقتصاد، متمكن في البرصة،و له اطلاع على عائدات السنة، ومداخيل الدولة، له المرجعية في علم الأنساب، وكل ما يتداول فذلك الباب، يعرف الخئولات والعمومات، وتفاريع كل بني أب، ونسب كل أحد،أهو من بني فلان بالأصل،أم هو داخل فيهم بالعصب،وكل وزير ورئيس ومدير هو من أخواله،وله قرابة بربة حجاله ، وعارف بأحواله،وطرق أمواله، ومداخله ومخارجه.ويظل يعيد ويكرر. حتى لاتبقى شاردة ولا واردة ولا قديمة ولا حديثة إلا جاء بها،مثل هذا الْعَشَنَّقُ المتملق،لا يلبث أن يستحوذ،ويتصدر ويتمحور،فتجد في المكاتب من أنواعه هذا زمرا، يقضون على ذلك النحو أعصر،فتضيع شؤون الناس من كثرة التجمعات والأماسي، فلا تجد من يكلمك ولا تصادف من يُفهمك،
ويتعرف من كثرة المجالسة والمؤانسة،على عقلية المدير الكبير، و يتمهر في وسائل التأثير، فيرسل إلى دار المدير ناقة،؛لتبدأ بها معه علاقة، وكلما دخل مكتب المسئول، يتذكره فورا عند الدخول، فيصادق من حينه على طلباته ورغباته، ويُوعز هو للمسئول أنه إذا تكلل الأمر بالنجاح، فحصتكم وعمولتكم جزء من الأرباح، وهو بذلك كفيل والله على ما يقول وكيل،كبل المدير بعطائه وتقربه من حرمه وأولاده، فهو يكاد يكون شقيقه وظله وخليله.
فيصبح كل من في الوزارة، وكل من في المؤسسة والادرة، بفضل مجالسة هذا المتصعلك،إلا من رحم ربك، غارقا في التفكير في طريقة يستفيد منها، وكيفية يسرق بها،
ويحكي لهم عن المسئولين السابقين وكيف نهبوا وكيف ذهبوا،وكيف أحسنوا إلى أهلبهم وكيف وظفوهم وكيف أماسوا من حلييهم، وضاعف من أموالهم،و كاثروا من جاههم وضاعفوا من أسهمهم، وأعلوا من قدرهم،ونزعوا من فقرهم....
فيغتر من يسمعونه، ويضل من يتبعونه، فيقول المسئول في نفسه مستعينا بحدسه، الآن أفعل ما فعلوا وأصنع ما صنعوا، فيملأ كل مسئول إدارته، من نساء قبيلته،وقريبات خليلته، وزمرا من معارفه ،يجعلهم منهم بواب مكتبه، وسائق سيارته، وقاضي حاجاته،وكاتم أسراره صاحب مواعيده.
والنتيجة المخيبة،أنه تكون المنشأة التي أنجزها ضعيفة، يسقطها الضحك وينسفها العطاس،تتحرى في سقوطها، ذهاب من دشنها، تتماسك أمام الوفد خجلا ،وتقف أمامهم جسدا.... لوا فتشت ها جيدا لوجدت دموعها سائلة، ولربها راجية أن لا يؤاخذها كون قدرها التعيس، جعلها عنوانا يستنفع منه من ذاك الإبليس،ويؤكل من خلالها مالا حرام، يموت بسببه الأنام،وعندما يولونها الأدبار يُتناقل نبأ سُقوطها في الأخبار، فتسقط المنشآت، وتتكسر الأرصفة، وتميل البنايات، وتتكدس الأتربة، وتعوج الجسور، وتسقط الدور، تنهار السدود، وتتوالى الردود، وتكثر الحفر، ويموت البشر....
ولا حول ولا قوة إلا بالله فهل من معتبر؟