لا يمكن لأي واحد منا أن يحصي الأخطاء الكثيرة التي يرتكبها في حياته، ولا يمكن له أن يقدم اعتذارا عن كل تلك الأخطاء، لأنه لو فعل ذلك لما وجد فراغا ولا متسعا من الوقت يمكن أن يستغله في أي شيء آخر، غير تقديم الاعتذارات، اعتذارا تلو الاعتذار.
تلك حقيقة لابد من الاعتراف بها في بداية هذا الاعتذار، وذلك حتى لا يفهم القارئ الكريم بأني إنما أردت أن أقول له من خلال هذا المقال، بأني لم أرتكب من الأخطاء ـ التي تستوجب تقديم اعتذارات ـ غير أخطاء مرتبطة بمقالين كنت قد كتبتهما في "أربعينية الاحتجاب"، ولم أوفق إطلاقا في كتابتهما.
أخطائي كثيرة لا يمكن حصرها، ولكن في بلد كبلدنا والذي تغيب فيه نهائيا ثقافة الاعتذار، يكون من اعتذر عن خطئ واحد فكأنما قد اعتذر عن أخطائه كلها.
ولقد كان من بين الأخطاء الكثيرة التي ارتكبتها خلال الأربعينية، والتي تستحق أن يُعتذر عنها، بعض الأخطاء التي وردت في مقالين اثنين، أولهما كان تحت عنوان "الانقلاب الناعم"، أما ثانيهما فكان تحت عنوان " إنهم الآن يصوغون البيان الأول".
ويكفي لمن لم يطالع المقالين المذكورين، ما يوحي به العنوانان، لمعرفة طبيعة الخطأ الذي وقعت فيه، والذي أريد أن أعتذر عنه الآن من خلال هذا المقال.
لقد كنت ضحية للإشاعات التي راجت خلال الأربعينية، وهذا هو ما جعلني أفترض بأن انقلابا ناعما سيحدث، ولقد أثبتت الأيام بأن ذلك الافتراض لم يكن في محله.
صحيح أن الشائعات في الأربعينية، كانت كالسيل الجارف الذي لم يكن بالإمكان الوقوف في وجهه، وصحيح أيضا أن الرئيس تصرف في تلك الأربعينية بأغرب ما يمكن أن يتصرف به رئيس دولة، حيث احتجب عن الأنظار، وأصر على الاستمرار في الاحتجاب، في وقت كان فيه بإمكان تلك الشائعات أن تُحدث أمرا، ليس على مستوى النظام الحاكم لوحده، وإنما على مستوى كيان الدولة بأكمله، ولكن الله سلم.
صحيح ذلك كله، ولكن كل ذلك، لم يكن يكفي للحديث عن فرضية "الانقلاب الناعم". والحقيقة أني في البداية حاولت جاهدا أن أقف في وجه سيل الشائعات العرم، لدرجة أني كتبت مقالا لدعم الرواية الرسمية، وكان على شكل قصة قصيرة تحت عنوان " الرئيس والملازم"، رغم أن تلك الرواية تم تقديمها بطريقة بائسة، لا يمكن إلا أن تثير شكوك شهودها، إن كان لها شهود، فكيف إذا تعلق الأمر بمن هو مثلي، ولم يسمع عن تلك الرواية إلا ما سمعه الجميع من تصريح مرتبك لوزير الإعلام ليلة الحادثة، ومن لقاء حصري مع ملازم بدا أكثر ارتباكا من الوزير؟
لقد قبلت الرواية الرسمية ودعمتها، ليس لأني كنت أملك دليلا واحدا يثبتها، ولكن، لأن كل الروايات المنافسة لها كانت أقل مصداقية، وأضعف حبكة.
وحتى في يوم السبت الذي أطلقت فيها شائعة الانقلاب، فقد تمكنت من الثبات أول الأمر، واعتكفت مساء ذلك اليوم أمام صفحتي على الفيسبوك، لأكتب سيلا من التدوينات التي كانت تحاول عبثا أن تقف في وجه شائعة الانقلاب.
وكانت تلك الليلة هي آخر عهد لي بالوقوف أمام سيل الشائعات الجارف.
فبعد شائعة الانقلاب، وبعد غياب أي رد رسمي عليها، بدأت أصدق تلك الشائعات التي كانت تقول بأن صحة الرئيس في تدهور شديد، ولكن الأخطاء التي ارتكبت في المقالين المذكورين لم تكن بسبب تصديقي للشائعات التي كانت تتحدث عن تدهور صحة الرئيس، وإنما كانت بسبب أني بدأت أصغي لتلك الأصوات الضعيفة والمرتبكة، والتي كانت تقول بأن صحة الرئيس في تحسن.
وعندما بدأت أصغي لتلك الأصوات، والتي كان أكثرها مصداقية ما نُقل عن الرئيس النيجري بعد لقائه مع الرئيس، عندما بدأت أصغي لتلك الأصوات بدأت أتوقع بأن هناك انقلابا ناعما يخطط له، وهذا هو ما جعلني أكتب مقالين حول تلك الفرضية الخاطئة.
ففي تلك الفترة كنت أطرح دائما، وبإلحاح شديد، السؤال التالي على نفسي: إذا كانت صحة الرئيس في تحسن، فلماذا لا ينظم الرئيس لقاء أو مقابلة أو يجري تصريحا يبث عبر التلفزة حتى يُطمئن من خلاله الشعب الموريتاني على تحسن صحته؟
وكنت دائما أجيب على ذلك السؤال بالإجابة الخطأ، فكنت أقول بأن الرئيس ربما يكون قد حاول ذلك، ولكن ربما تكون هناك جهات صديقة، لا تريد له أن يُظهر تحسن صحته للشعب الموريتاني، لأن لتلك الجهات مصلحة في أن يظل الشعب يصدق الشائعات التي كانت تتحدث عن انهيار صحة الرئيس.
طبعا كان هناك احتمال آخر، خطر ببالي ولكني استبعدته بسرعة، وسيثبت فيما بعد بأنه كان هو الاحتمال الصحيح : إن الرئيس كان يريد أن يظل متخفيا عن الأنظار، وكان يريد الجميع أن يصدق الشائعات، حتى يقرر هو، وفي اللحظة المناسبة، أن يفاجئ الجميع بتحسن وضعيته الصحية.
ولقد قال الرئيس بعد عودته، وفي لقائه الصحفي بالقصر الرئاسي، بأن السبب كان يكمن في كونه لم يصحب معه صحفيا، حتى يجري معه لقاء يطمئن من خلاله الشعب الموريتاني على وضعيته الصحية، وهذا القول يكفي لوحده لأن يؤكد بأن الرئيس ـ على عكس ما أراد أن يقول ـ كان يتعمد فعلا أن يحتجب عن أنظار الجميع.
وبالتأكيد فلم أكن أنا هو الوحيد الذي فوجئت بظهور الرئيس، فقد كانت هناك جهات في أعلى سلم النظام فوجئت مثلي، وهي جهات كانت قبل ذلك قد تصرفت تصرفات غير محسوبة جعلتني أنخدع أكثر بفرضية "الانقلاب الناعم".
لقد كان من الأسلم أن لا أستبعد الاحتمال الثاني، خصوصا وأننا في بلد يمكن فيه للرئيس أن يتصرف كما يشاء، وأن يحتجب عن المواطنين، وأن يحجب عنهم وضعيته الصحية إلى الوقت الذي يشاء.
كان عليَّ أن لا أنسى بأن الرئيس يمكنه أن يعتبر صحته ـ كأشياء أخري في حياته ـ شأنا خاصا به، وأن له الحق الكامل في التعامل مع وضعيته الصحية بالطريقة التي يشاء، يحجب حقيقتها عندما يشاء، ويستخدمها كورقة سياسية ضد خصومه السياسيين إذا ما شاء، وإذا ما اقتضت المصالح السياسية الآنية مثل ذلك الاستخدام.
واستبعاد هذا الاحتمال الأخير هو الذي انحرف بي، بعيدا عن حقيقة ما كان يجري، وهو الذي جعلني أكتب مقالين أعترف الآن بأن لم أوفق إطلاقا في كتابتهما.
وبمناسبة هذا الاعتذار، فإني أعد القارئ الكريم بأني سأحاول أن أكون أكثر حذرا في المستقبل، وأن أحاول قدر المستطاع أن لا أنخدع بكل ما يطفو من زبد على سطح المشهد السياسي..
تصبحون على مقالات أكثر مصداقية...