الحجر مفردة تتردد كثيرا هذه الأيام في مختلف الأوساط السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأسرية ، إذ لا يكاد يخلو منها بيت في المعمورة ، والسبب جائحة كوفيد 19 ، التي اجتاحت الصين منذ نهاية 2019 والعالم منذ بداية 2020 ، ووصلت موريتانيا منتصف مارس ، بيد أن قصتي مع الحجر كانت قبل ذلك ، وربما حياتي الشخصية لم تكن سوى حجر في حجر ، ليأتي الحجر الكبير الذي هز العالم ، فيجعل من الحجر قصة على كل لسان ، و حادثة في كل حارة ، ونبأ في كل نشرة ، وربما في وقت لاحق لقطة في كل فيلم ...
وما قبل الحجر الأخير كنت في حجر طوال شهرين في " باب الفتح " أو ماتعرف ب " رباط الخير " ، أستاذا مساعدا ، ولقد اشتقت للحياة الإجتماعية ولقاءات الأصدقاء والمشي مساء في أزقة وشوارع انواكشوط ، ولم تكن الأيام التي قضيتها في الرباط عادية ، بل ازدانت بأحاديث الأساتذة و تجاربهم الثرية و قصصهم الطريفة و آرائهم المتنوعة، بيد أن أهم ما في الرباط هو ذلك الجو من الألفة بين الناس و الإهتمام بالإنسان كإنسان ، و في الوقت الذي لا يكاد يجد الشخص من يستمع له اليوم في عصر المعلومات والتكنولوجيا والهواتف الذكية، تستطيع أن تستمتع بأجمل لحظات حياتك وأنت في جمع من الأساتذة من مختلف الثقافات في مجتمعنا المتنوع ، ولن ترى أحدهم مشغولا عنك في هاتفه ، وهو ما سيشعرك بأنك تعود إلى موريتانيا الطيبة قبل سيطرة الأنترنت على قلوب وعقول الناس ، وقبل مجيئ فيسبوك وواتساب و تيك توك و اسناب شات...
وفي هذا الحجر ستسمع قصصا طريفة ، تضحك لها حتى لتكاد تستلقي على ظهرك من شدة الضحك ، و ستشارك في حوارات فكرية و ثقافية و اجتماعية و سياسية ، ستثري ثقافتك، وتفتح عقلك ، وتنير قلبك ، و ستدرك مع مرور الوقت كم هي الحياة جميلة بالتنوع ، التنوع الذي يضفي جمالا على حياتنا كما الزهور المتنوعة الألوان التي تضفي جمالا على الحديقة أو باقات الزهور ...
ومع التنوع ستحب الحياة أكثر فأكثر ، كم هي حياتنا مملة بدون ازدحام الآراء والأفكار والرؤى...
وفي هذا الحجر ستجد وقتا للمطالعة، ذلك النشاط الأكثر روعة ، الذي يسبح بنا في فضاءات المعرفة والتألق والإبداع، إذ لا مندوحة عن مجالسة الكتب ، والنهل منها في هذا الحجر ، حتى لو كانت مجرد كتب الكترونية على صيغة pdf
ولقد عشت أجمل الأوقات مع كتاب أدبي من تأليف الأستاذ عبد الله الطيب ، بعنوان : المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها ، وهو من خمسة أجزاء ، كل جزء يتناول موضوعا معينا ومنها (في النظم ، في الجرس اللفظي، في الرموز والكنايات والصور ، في الأغراض وأطوار المقاصد والأساليب )
ويلفت الكاتب في الجزء الثاني ( في الجرس اللفظي ) إلى أن " الفصاحة بالمعنى الإصطلاحي القديم كان يراد بها رنين الألفاظ ، وهذا قريب من مرادنا بكلمة الجرس " ، " ... هذا ، و مما يلحق بكلمتي ( الفصاحة ) و ( الجزالة ) مما كان يراد به نعت الألفاظ ورنينها ( حسن الرصف ) و ( الفخامة ) و ( شدة الأسر ) و ( صفاء الديباجة ) و ( السلاسة ) . و ( الفصاحة )، أدخلها جميعا في جوهر الإصطلاح .
وكلمة( الجرس ) التي نستعملها نحن المعاصرين ، أدل منها على القصد ، فصوتها نفسه يشعر بمعناها، وهي بعدُ لفظ واسع المدلول، ينضوي تحته كل ما يتعلق بدندنة الألفاظ في البيان الشعري ... "
ولئن كان الكاتب قد أسهب وأفاض في هذا الموضوع فلقد أبدع و أمتع في بقية المواضيع خاصة في الرموز و الكنايات والصور و الأغراض والمقاصد والأساليب ...
و أجمل ما في هذه المطالعة أن جلستك مع الكبار : أدبيا وفكريا وذوقيا ، تتذكر و أنت تطالع هذا الكتاب وغيره أحد العلماء إذ روي أنه جاءه رسول الخليفة يقول له : " أمير المؤمنين يستدعيك " ، فقال له : " قل له عندي قوم من الحكماء أحادثهم فإذا فرغت منهم حضرت " . فلما عاد الرسول إلى الخليفة وأخبره الخبر سأله : " ويحك ! من هؤلاء الذين كانوا عنده ؟ " قال : " والله يا أمير المؤمنين ما رأيت عنده أحدا " قال : " اذهب فأحضره الساعة " فلما حضر سأله الخليفة : " من هؤلاء الذين كانوا عندك ؟ " فقال : " يا أمير المؤمنين :
لنا جلساء ما نملّ حديثهم أمينون مأمونون غيبا وشهّدًا
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى ورأيًا وتأديباً ومجداً و سؤددًا
فإن قلت أمواتٌ فلم تعدُ أمرهم وإنت قلتَ أحياءٌ فلستَ مفنَّدا
فعلم الخليفة أنه يشير إلى ( الكتب ) ، فلم ينكر عليه تأخره..