الإسلام بين القومية والأممية / د.الشيخ ولد باباه اليدالي

 إن إعادة بناء أو صياغة أي فكرة أو ظاهرة يحتاج من المرء الرجوع إلى مهدها؛ حيث نشأت وترعرعت وتنقلت من طور إلى طور ومن مرحلة إلى أخرى، ومن هنا فإن من يروم توصيفا دقيقا لطبيعة الدعوة الإسلامية عليه أن يعود بالتاريخ إلى الوراء؛ حيث العهد النبوي بشقيه المكي والمدني، وحيث النصوص القرآنية مترعة بعبق التاريخ وبأريج مكابدة الإنسان في سبيل تحقق الدعوة في الواقع المعيش

 كلنا يعلم أن الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه عندما جاءه الأمر بتبليغ الرسالة كان مقترنا بتوجيه الخطاب إلى قوم معينين هم ساكنة مكة الذين هم بالأساس قريش قبيلة الرسول الأعظم، وفي هذا الصدد جاء الأمر القرآني صريحا وحاسما في قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين}، ثم تعزز هذا الأمر بآية أخرى تقول: {لتنذر أم القرى ومن حولها}

 إذن كان الرهان في البداية على الحاضنة الأولى التي هي مكة المكرمة ومجتمعها القرشي؛ مهد الدعوة المحمدية، وعندما امتنعت قريش ومضت سادرة في غيها كان لا بد من مراجعة المسار والبحث عن متنفس جديد للدعوة تبني عليه أركانها، وتتخذه قاعدة للتحرك في مساحات الحاضنة الكبرى التي هي الجزيرة العربية؛ وهنا يأخذ الخطاب منحى توسعيا سائرا في "الاتجاه القومي" الذي كرست خطوته الأولى: (وأنذر عشيرتك الأقربين)، وما دام سائرا في منحى توسعيا فليكن المجال الجديد هو الإنسان العربي أينما كان، ومن النصوص القرآنية المؤسسة لذلك قوله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)، ومن البدهي أن "الأميين" كانت علما على العرب في ذلك العهد لجهلهم بالقراءة والكتابة، أو هي لقب أطلق عليهم (أي العرب) من قبل اليهود...

 ما أريد أن أصل إليه في هذا السياق هو أن الإسلام دينا قوميا عروبيا، ولا يظنن ظان أن في ذلك غض من قيمه ومثله الإنسانية السامية، ولا من هيمنته على الأديان السابقة عليه. كلا! كلما في الأمر هو أنه يمثل عناية الله بالعرب الذين كانوا في غاية التخلف حتى وصفوا بـ"أكلة الضباع واليرابيع" فنهض بهم الإسلام وجعلهم قادة العالم وسادته وذلك عندما تلقفوه (أي الإسلام) واعتبروه رسالتهم الخاصة؛ تماما مثلما حدث لبني إسرائيل أيام موسى عليه السلام

 وللدارس أن يقول بأن هذا الفهم العروبي للإسلام لا تشوش عليه الآية التي تقول: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا)؛ إذ من المحتمل أن يكون المقصود بالناس هنا العرب خاصة؛ باعتبارهم هم من ينصرف إليهم الخطاب الإسلامي عادة

 ولا يخفى على أحد أن هناك من يتغنى بعالمية الإسلام وانفتاحه على مختلف الأعراق البشرية، ولعل هذا التوجه أخذ طريقه في وقت مبكر من تاريخ الإسلام، ولكنه كان وبالا على الإسلام نفسه ومعول هدم له من الداخل، وما الحركات الباطنية والملل والنحل والفرق المنحرفة إلا خير دليل على ذلك؛ إذ أن من يقرأ في تاريخ هذه التيارات يلاحظ أنها ذات نشأة أعجمية هدفها تحريف عقيدة الإسلام وجرف هذا الدين السماوي النقي عن جادته الصحيحة

 ولعل أصحاب العقول الكبيرة والنظرات الثاقبة من الصحابة أمثال عمر بن الخطاب حذروا من العواقب الوخيمة لهذا الانفتاح الإسلامي على الشعوب الأخرى، واعتبروه كارثيا على الإسلام ومستقبله، وقد صدق التاريخ هذا التصور – كما أسلفت قبل قليل – من خلال الحركات الباطنية والخطابات الشعوبية المجنونة

 وكاتب هذه السطور على اعتقاد راسخ بأن النهضة الإسلامية لن يكتب لها التوفيق ما لم تقف على أرضية عربية خالصة، وتبيئ الإسلام في بيئته الأصلية ومجاله الاجتماعي الذي هو عربي بالأساس؛ وذلك بانتهاج خطاب عروبي إسلامي، يفرض على كل معتنقي الإسلام التلون باللون العربي والولاء الصادق للتوجهات الحضارية للأمة العربية، وبذلك ننقي الإسلام من الشوائب التي لحقت به عبر العصور، ونحميه من اللوثة الأعجمية التي قلما تسلم من الترسبات الوثنية والانحرافات العقدية

 ومن باب الأمانة العلمية علي أن أقول بأن هذا التصور الذي يحاول هذا الحديث أن يشير إليه منبثق من الإسلام نفسه؛ قرآنه شعائره التعبدية...؛ فالقرآن في نصوصه كثيرا ما يؤكد أنه "عربي مبين" وأما الشعائر التعبدية فيكفيني أن أشير إلى أن المسلم يؤدي يوميا سبع عشرة ركعة على وجه الوجوب، يقرأ في كل منها الفاتحة مع ما تيسر من القرآن أحيانا وذلك باللفظ العربي الأصل الذي لا يقبل الترجمة والتحويل إلى لغة أخرى

 وما أظن أن هناك من يخالفني في أن "البعد الثقافي" في الإسلام عربي خالص لا يقبل غير ذلك!

 ولعل "قومنة" الإسلام هذه يترتب كثيرا من الناحية السياسية، ولكنها لا يترتب عليها كبير شيء من الناحية الدينية فالإسلام كان مفتوحا وما زال لكل من يريد اعتناقه، ولكن بشرط أن يكون على طريقة بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي...!

 

4. يونيو 2020 - 22:22

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا