من الصعب جدا فهم المواقف السياسية لحزب تواصل في الفترة الأخيرة، ولا ماذا يُراد من وراء تلك المواقف، وكان آخر هذه المواقف الغامضة قرار الحزب بعدم حضور الاجتماع الأخير لتنسيقية الأحزاب الممثلة في البرلمان، والتي تضم بعض أحزاب الأغلبية والمعارضة، وربما يكون هذا الغياب هو البداية الفعلية لانسحاب الحزب من التنسيقية.
هذا الموقف الذي يصعب فهمه من تنسيقية الأحزاب الممثلة في البرلمان يأتي تتويجا لسلسلة من المواقف التي سبقته، والتي يصعب فهمها هي أيضا، خصوصا إذا ما تمت مقارنتها ببعض مواقف الحزب التي اتخذها خلال فترة حكم الرئيس السابق.
لقد سارع الحزب إلى الاعتراف بنتائج انتخابات 2009 الرئاسية، والتي ترشح فيها رئيس الحزب، وسارع في موقف مناقض تماما لذلك الموقف إلى عدم الاعتراف بانتخابات 2019 الرئاسية، والتي كان فيها الحزب مجرد داعم لأحد المترشحين. ومن المعروف بأن انتخابات 2009 كان الفائز فيها هو الرئيس السابق الذي ترشح بعد سنة تقريبا من انقلابه على رئيس منتخب، أما انتخابات 2019 فقد كان الفائز فيها هو الرئيس الحالي الذي لم يُمهد لترشحه للرئاسة بانقلاب عسكري.
بعد انتخابات 18 يوليو 2009 بثلاثة أشهر قرر حزب تواصل وفي سابقة من نوعها، أن يتحالف مع الحزب الحاكم في انتخابات تجديد ثلث مجلس الشيوخ، وفي تقرير نشرته "الجزيرة نت" قال نائب رئيس الحزب السيد محمد غلام ولد الحاج الشيخ معلقا على ذلك التحالف الانتخابي بأن "الجميع يعرف أن تواصل يمثل في الوقت الحاضر همزة وصل بين السلطة والمعارضة، فهو ليس من السلطة لأنه لم يدخل الحكومة، وهو أيضا ليس جزءا من المعارضة الحدية لأنه اعترف بالنتائج وبالسلطات الجديدة".
هذا الحزب الذي قرر منفردا أن يشكل "همزة وصل" بين السلطة والمعارضة بعد انتخابات 2009، والذي قرر من بعد ذلك أن يرفع شعار "المعارضة الناصحة" لفترة من الزمن، هو نفسه الحزب الذي يرفض اليوم ـ وبشكل منفرد ـ أن ينسق مع الأحزاب الممثلة في البرلمان في ظرفية خاصة تواجه فيها بلادنا جائحة كورونا.
في العام 2013، وخلال الانتخابات التشريعية والبلدية التي تم تنظيمها في ذلك العام، قرر حزب تواصل أن يخرج منفردا عن إجماع منسقية المعارضة، فشارك في تلك الانتخابات، وحقق بذلك مكاسب ضيقة للحزب، ولكنه أصاب التنسيق بين أحزاب المعارضة في مقتل، وهو ما أثر سلبا على الانتقال الديمقراطي في موريتانيا، والذي يحتاج ـ أكثر من أي شيء آخر ـ إلى معارضة قوية، ولا يمكن بناء معارضة قوية في ظل مواقف حزب تواصل الذي لا يتردد في الانخراط في العمل المعارض المشترك إذا اقتضت مصلحته الحزبية الضيقة ذلك، ولا يتورع عن الخروج المنفرد من ذلك العمل المعارض المشترك إذا ما استدعت مصلحة الحزبية الضيقة ذلك. اليوم ها هو حزب تواصل يكرر طعن العمل المعارض المشترك في الظهر، وذلك من خلال قراره بالخروج منفردا من تنسيقية الأحزاب الممثلة في البرلمان، والتي تضم كل الأحزاب المعارضة التي تمتلك نائبا أو أكثر في الجمعية الوطنية.
المؤسف في الأمر أن حزب تواصل الذي ينفرد في خطابه السياسي عن كل الأحزاب السياسية الأخرى بتكرار الحديث عن إضفاء بعد أخلاقي على العمل السياسي، المؤسف في الأمر أن هذا الحزب الذي ينفرد بذلك الحديث الأخلاقي قد أصبح هو الحزب الذي يتوقع منه الكثيرون أن يكون هو أول من يطعن إجماع المعارضة وتنسيقها كلما تكتلت أحزابها من جديد ونسقت في إطار جامع. حدث ذلك في ظل الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية التي خرج منها تواصل منفردا بمرشحه الرئاسي، وحدث ذلك في ظل منسقية المعارضة التي خرج منها الحزب بقرار منفرد بالمشاركة في انتخابات 2013، وها هو إنخرام الإجماع بواحد يتكرر من جديد مع تنسيقية الأحزاب الممثلة في البرلمان.
و إذا ما استبعدنا تأثير البعد الخارجي في مواقف حزب تواصل، فالظاهر أن الدافع وراء تكرر خروج حزب تواصل المنفرد من تكتلات المعارضة هو السعي لتحقيق مصلحة ضيقة للحزب، وكثيرا ما تكون تلك المصلحة الضيقة على حساب المصلحة العامة للمعارضة وللديمقراطية وبالتالي على حساب المصلحة العليا للبلد. في العام 2013 كانت الظرفية تستدعي التصعيد مع النظام، حينها قررت المعارضة أن تصعد، فما كان من حزب تواصل إلا أن قرر أن يهادن، واستقطب بمهادنته تلك طائفة كبيرة من جماهير المعارضة الراغبة في المشاركة في الانتخابات. وفي الفترة الحالية ولأن الظرفية تقتضي التهدئة والمهادنة، ولأسباب وجيهة سنبسطها بعد حين، قررت أحزاب المعارضة أن تهادن، فما كان من حزب تواصل إلا قرر أن يصعد ضد النظام، وهو بهذا القرار سيستقطب جماهير المعارضة الراغبة في التصعيد ضد النظام الحالي، وقد يحقق بذلك مكاسب سياسية ضيقة، كما حقق مكاسب سياسية ضيقة بموقفه المنفرد في العام 2013، ولكن تحقيق تلك المكاسب السياسية سيكون على حساب العمل المعارض المشترك، وعلى حساب الديمقراطية والمصلحة العليا للوطن.
إن التهدئة مع النظام الحالي في مثل هذا الوقت، قد تساعد في تحقيق بعض المكاسب الهامة للوطن ولديمقراطيته المتعثرة، ومن تلك المكاسب:
1 ـ تكريس وصيانة مبدأ التناوب السلمي على السلطة، وبالتالي حماية الانتقال الديمقراطي، فليس من مصلحة الوطن تكرار ما حدث خلال الفترة القصيرة التي حكم فيها الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله.
2 ـ توفير الأجواء المناسبة للتصدي لوباء كورونا، فليس من الأخلاق ولا من السياسة التصعيد في أوقات الأوبئة والأزمات.
3 ـ توفير الغطاء السياسي للجنة التحقيق البرلمانية، والتي يعتبر مجرد تشكيلها خطوة هامة في محاربة الفساد وفي استعادة البرلمان لأحد أهم أدواره. إن هذه اللجنة التي فتحت ملفات حساسة وجمعت معلومات في غاية الأهمية ستكون بحاجة ماسة ـ وخاصة خلال الشهرين القادمين ـ إلى غطاء سياسي يحمي تقريرها ويفعله، ولذلك فإن خلق صدام بين الأحزاب المشكلة لهذه اللجنة في مثل هذا الوقت بالذات سيكون بمثابة طعنة في الظهر لأول لجنة تحقيق برلمانية جدية، وهو ما قد ينتج عنه في المحصلة النهائية إفشال أول محاولة جادة لتكريس مبدأ المحاسبة والمساءلة.
يُضاف إلى كل ذلك، أن البعد الأخلاقي يقتضي من حزب تواصل ـ إن كان الحزب يهتم بذلك البعد ـ أن يكون هو الحزب المعارض الأشد تحمسا للتهدئة مع الرئيس الحالي، على الأقل خلال العام الأول من مأموريته، لا أن يكون هو الحزب المعارض المنفرد بالدعوة إلى التصعيد معه. ذلك أن الرئيس الحالي قد عمل ومنذ وصوله إلى الحكم إلى إعادة الاعتبار لمؤسسة المعارضة التي يتزعمها أحد قادة حزب تواصل، فتم استدعاء زعيم المعارضة لحضور الأنشطة الرسمية، وتم منحه في الخطابات والأنشطة الرئاسية مكانته البروتوكولية التي يستحقها دستوريا، كما تم استقباله في القصر الرئاسي وفي الوزارة الأولى مع التعهد بمواصلة تلك اللقاءات الدورية. جاء ذلك بعد سنوات طويلة من المعاملة غير الودية التي طبعت تعامل الرئيس السابق مع المؤسسة وزعيمها.
كما أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني عمل منذ قدومه إلى السلطة على التخفيف من مستوى الصدام الذي كانت أجهزة الدولة تتعامل به مع الجمعيات والمؤسسات المحسوبة على حزب تواصل. صحيح أن تلك المنظمات المغلقة لم يتم فتحها، ولا السماح لها باستعادة أنشطتها بشكل طبيعي، ولكن الصحيح أيضا هو أن افتعال الصدام معها لم يعد قائما كما كان خلال السنوات الأخيرة من حكم الرئيس السابق.
في ظل أجواء كهذه، يقترب حزب تواصل من أن ينفرد من بين كل أحزاب المعارضة باتخاذ قرار بالتصعيد مع نظام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، فلماذا قرر الحزب ذلك؟ ولماذا في هذا الوقت بالذات، والذي تقترب فيه اللجنة البرلمانية من إنهاء تقريرها وتقديمه للجمعية الوطنية، ومما لا شك فيه أن تقديم ذلك التقرير سيشكل البداية الحقيقة للمواجهة بين الرئيسين السابق والحالي، ومما لا شك فيه أيضا أن من يقرر في مثل هذا الوقت بالذات التصعيد مع الرئيس الحالي، سيكون ـ قصد ذلك أم لم يقصده ـ في خندق الرئيس السابق.
حفظ الله موريتانيا...