تناولت وسائل الإعلام في الأيام الأخيرة، خبرين يتعلقان بقطاع التعليم العالي، حظيا باهتمام كبير لدى رواد موقع فيسبوك، وقد شكل الأمر فرصة لبعض المعلقين ليوجه التهم والأوصاف جزافا في حق وزير التعليم العالي د. سيدي ولد سالم، ويصب جام غضبه عليه. ولئن كانت بعض التعليقات تنم عن جهل وعدم إحاطة بالكثير من الحقائق لدى أصحابها، فإن نوايا مبيتة لا تنفك تظهر لدى آخرين تدفعهم لاتخاذ كل خبر ذي صلة بهذا القطاع مهما كانت قيمته، مناسبة للتهجم على الوزير ونعته بأبشع النعوت.
أما الخبر الأول فيتعلق باكتتاب أساتذة للتعليم العالي تعتزم الوزارة تنظيمه، بينما يتعلق الخبر الثاني بطلب تقدمت به ـ مشكورة جمهورية تونس الشقيقة ـ من أجل تسهيل إجراء الامتحان للطلبة الموريتانيين في تونس، ممن لم يتمكنوا من الالتحاق بجامعاتهم بسبب الإغلاق الذي فرضته جائحة كورونا.. يتضمن الخبر الأول اتهاما للوزير بانتهاج سياسة انتقائية في القطاع من خلال تعمد إقصاء تخصصات بعينها، وفي الخبر الثاني يتهم زوراَ بعدائه للطلاب من خلال عدم موافقته على الطلب المذكور.
وهذه ليست أول مرة يتعرض فيها الوزير للافتراء والكذب مما لا وجود له خارج أذهان مروجيه، ولا يعدو ذلك أن يكون ردة فعل طبيعية خلفتها الحرب ضد لوبيات الفساد التي أعلنها الوزير منذ تعيينه على رأس القطاع، والدليل عليه أن الاكتتاب المرتقب، أو أي اكتتاب آخر، إنما يأتي تلبية لحاجة تعبر عنها مؤسسات تعليمية وتمر بمراحل متعددة قبل أن تصل إلى الوزير ومن ثم تأخذ طريقها للإعلان، ثم إن أمر القبول أو الرفض فيما يتعلق بإجراء الامتحان المثير، يظل مرهونا بما تمليه مصلحة البلاد وظروفها الخاصة وعلاقاتها الخارجية، وفي كلا الأمرين لا تتمحض مصلحة للوزير تدفعه للتدخل في أحدهما رفضا أو قبولا.
ولكي لا نتمادى في الظلم والافتراء ونتخذ منه مطية لتحقيق مآرب خاصة، بودي لو بينت بعض النقاط الأساسية في صورة مقارنات بين ماضي القطاع وحاضره في ظل تولي الدكتور سيدي ولد سالم لمنصب الوزير فيه، وذلك من أجل إحقاق الحق وإنصافا للرجل:
لا زلنا نتذكر وضعية قطاع التعليم العالي عموما وجامعة نواكشوط (أو جامعتيه لاحقا) على وجه الخصوص، قبل وصول الدكتور سيدي ولد سالم إليها، ومدى ما وصلت إليه تلك المؤسسة ذات الأهمية البالغة، من الانهيار والتردي الخدماتي بسبب الفساد، وكيف تحولت إلى ميدان للتجاذبات السياسية بعد أن أضحى منصب العميد انتخابيا، يصل فيه التنافس ذروته عند كل استحقاق انتخابي، وتستخدم الزبونية والمحسوبية كأسلحة في الوصول إليه، وكيف صار العميد أمة وحده، ولا علاقة له بالجهة الوصية عليه (الوزارة) ولا يرى له من فضل سوى على الذين انتخبوه، ناهيك عن ما كان يشهده طرف المعادلة الآخر من صراع محتدم في صفوف الطلاب، في إطار اتحادات طلابية تتعدد مشاربها وتتلون بألوان الطيف السياسي والفكري في البلاد ( الإسلاميين، والبعثيين اليساريين، الزنوج...الخ) وكل طرف يسعى لفرض أجنداته الخاصة ليصبح أكثر حضورا وتمثيلا في الساحة الطلابية، عبر حشد أكبر قدر ممكن من الأنصار على حساب الطرف الآخر، وكثيرا ما كانت تصل درجة التوتر، بفعل الخلافات الأيديولوجية والسياسية بين الطلاب، حدا تتحول بموجبه الجامعة إلى ساحة حرب تتعطل على إثرها الدراسة في الجامعة لفترة طويلة.
أما المسألة التعليمية ودورها في بناء الإنسان وتأهيله ليكون قادرا على المساهمة في بناء الوطن، والذي هو الهدف والغاية الأسمى للتعليم الجامعي، فلم يعد أحد يكترث له، بل أضحى في خبر كان، ومع وصول الدكتور سيدي ولد سالم، وهو العارف بخفايا القطاع ومشاكله، وبعد أن بات مدركا لمدى صعوبة تسيير قطاع برؤوس متعددة، ولكي يتسنى له تنفيذ خطته للإصلاح في جو يطبعه الانسجام والتفاهم، قرر إلغاء انتخاب منصب العميد، وجعْلَه منصبا يتم تعيينه، كما كان لا بد للطالب، في هذا الإطار، أن يدرك حقيقة كونه مجرد طالب وليس شيئا آخر، وأن الجامعة والقطاع بشكل عام لن يعامله سوى من هذا المنطلق، وعليه أن يدرك ذلك ويعمل بمقتضاه.
طبعت الفوضى وغياب الشفافية لعقود من الزمن عملية توجيه الطلاب الحاصلين على شهادة الباكلوريا في البلاد ، ولم تكن تتوفر آلية واضحة وشفافة تخضع لها هذه العملية الحاسمة والمصيرية في مسار الطالب الدراسي ، باستثناء الوساطة والزبونية، وأضحى بمقدور الطالب أن يحصل على التوجيه وفقاَ لهواه ورغبته، بغض النظر عن ما إذا كان معدله أو مستواه يسمحان له بذلك، فيمكنك على سيبل المثال أن تجد طالبا بمعدل نجاح ضعيف جدا يطمح للحصول على منحة من الدولة لدراسة الطب أو الهندسة في الجامعات الأوربية، وإذا لم تسعفه الطرق العادية في تحقيق رغبته، فخيار الطرق الملتوية أمامه متاح وسالك، ومع وصول الدكتور سيدي ولد سالم للوزارة كان لا بد من وضع حد نهائي لتلك الممارسات التي يتضرر منها بالدرجة الأولى من لا نفوذ لهم ولا وساطة لكي ينالوا حقوقهم، وسيؤدي استمرارها على نفس المنوال إلى نتائج كارثية على الدولة والمجتمع على حد السواء، وهكذا صارت عملية التوجيه تتم وفق معايير واضحة وشفافة، وبواسطة نظام معلوماتي عال الدقة، من خلاله يتم فرز نتائج التوجيه بعد إدخال بيانات الناجحين، دون تدخل من أي كان، ابن الوزير والغفير فيه سواء، كما تمت إضافة تخصصات جديدة لم تكن موجودة من قبل، وتتطلب دراستها السفر إلى الخارج وتحمُّلٍ تكاليف باهظة ليست في متناول الكثيرين، وقد لاقت تلك الخطوات استحسانا كبيرا من لدن الطلاب وذويهم، نظرا لكونها جمعت في الآن نفسه، بين الشفافية ومراعاة ظروف الناس وأحوالهم، كما تم داخل كل شعبة تحديد مجموعة من التخصصات بحيث لا يوجد تداخل بين الشعب ولا تتاح لخريج إحدى الشعب إمكانية دراسة تخصص خاص بخريجي شعبة أخرى..
كان التغيب وعدم احترام المدرسين للمسؤولية التدريسية الموكلة إليهم، السمة الغالبة في الجامعة، وأصبح غياب الأستاذ عن حصصه دون عذر ولا تعويض أمرا عاديا ويتكرر باستمرار، ويمكن للأستاذ عند بداية كل عام جامعي أن يمنح جدوله الزمني لمن يرغب من المتعاونين، بينما يتفرغ هو لتدبير شؤونه الخاصة، وهو ما تترتب عنه أضرار جسيمة، ليس أقلها حرمان الطالب من تلقي البرنامج الدراسي المقرر عليه، وهو ما ينعكس على تحصيله العلمي وكم المعلومات اللازم، فيتخرج الطالب غالبا بمستوى هزيل وتكوين ناقص، ولم يكن أمام الجهات المسؤولة في الجامعة في هذه الحالة، إلا أن تغض الطرف عن تلك التصرفات، نظرا لانتشار الزبونية والمحسوبية في الوسط الجامعي.
ثمة نوع آخر من أنواع التسيب والفساد، لا يقل ضررا عن سابقه، ويدفع المجتمع والدولة ثمنه غاليا، ويستنزف طاقات الجامعة ويحرمها من مصادر بشرية ذات كفاءة عالية، يتعلق ذلك بالوضعيات النظامية المعروفة في قانون الوظيفة العمومية: كالاستيداع والإجازات والإعارة بمختلف أنواعها، وهذه وإن كانت وضعيات قانونية معروفة لكلٍ الحق فيها ، إلا أن الاستفادة منها تحصل وفق شروط وضوابط محددة، بينما اعتاد البعض أن يتخذها ذريعة للتواري عن الأنظار وقطع الصلة بالجامعة والتدريس إلى غير رجعة، مع بقاء الرواتب والامتيازات جارية في الغالب، فتجد مثلا من يعمل في مؤسسات دولية ومن يتعاقد مع جامعات أجنبية، وحتى من يتقلد وظائف إدارية هنا في البلاد وبمقدوره، إن حصلت الإرادة، تخصيص وقت للتدريس في الجامعة، لكنه لا يفعل.
وقد مثل القضاء على تلك التجاوزات و المسلكيات الضارة، أولوية لدى الوزير منذ تعيينه على رأس القطاع، وصار كل مدرس ملزما بتأدية عبء تدريسي سنوي، تتم محاسبته على كل تقصير أو تجاوز يحدث فيه، وبعد الفراغ من توزيع كل الأعباء التدريسية الخاصة بالمدرسين الرسميين، يتم احتساب المتبقي من التوقيت، ليوزع وفق طريقة فرز الملفات، على المتعاقدين الراغبين في ذلك، وبالنسبة لأصحاب المسؤوليات الإدارية من المدرسين، فقد تم إلزامهم بمسؤوليات تدريسية تتناسب مع المهام الإدارية المنوطة بهم، كما خضعت الوضعيات النظامية المذكورة، للرقابة الصارمة حرصا على احترام آجالها ومُدَدها القانونية المنصوصة.
التحقيق في المؤهلات العلمية لبعض المدرسين هو الآخر، حظي باهتمام كبير من لدن معالي الوزير، حيث قادت عمليات المتابعة في هذا الصدد إلى اكتشاف بعض الشهادات التي تحوم الشكوك حولها، ولم يقبل أصحابها الإدلاء بالتفاصيل الكاملة حولها، فكانت موضع تحقيق من قبل الجهات المختصة، وبدل إظهار أسلوب متعاون يقود إلى تصحيح الخطإ بالطرق الإدارية المعهودة، فضل البعض خيار الضجيج، والانضمام إلى جوقة المناهضين للإصلاح، والسعي لخلق رأي عام ناقم على الوزير ومعارض للنهج الذي يتبعه في النهوض بالقطاع.
حينما تتوفر الإرادة الجادة والصادقة في الإصلاح يصبح الإنسان قادرا على اجتياز كل المطبات التي تقف في طريق الوصول إلى الأهداف، دون اكتراث لحجم التحديات التي تطرحها، وهذا هو الحال مع قرار تحديد سن الولوج للجامعة الذي اتخذه الوزير منذ أكثر من عامين، بعد حصول القناعة لديه باستحالة الخروج من دوامة الفشل في تعليمنا الجامعي ما لم نتمكن من ضبط مدخلات الجامعة ومخرجاتها.
هذا غيض من فيض ما تحقق في قطاع التعليم العالي بفضل جهود الرجل، وبدت ثماره يانعة يقطفها الجميع، إن على مستوى مصداقية القطاع الذي أخذ يتعافى واستعاد بعض ألقه في نفوس الناس، بعد عقود من التعايش مع الفساد المستشري، أو من خلال تنوع المخرجات وملاءمتها لمقتضيات سوق العمل، ناهيك عن تبوء خريجي مدارس المهندسين لمراكز الصدارة ضمن منافسات دولية مع نظرائهم في بلدان عديدة إفريقية وأوربية، صار اسم موريتانيا بفضلها يتردد في محافل علمية دولية مرموقة .
كل هذا إن لم يكن يصب في مصلحة الطالب، فلمصلحة من يكون برأيكم؟ ثم يأتيك بعدها من يفتري على الرجل، ويتهمه زورا بمعاداة الطلاب. ما لكم كيف تحكمون؟.