من وقت لآخر - على هامش النقاشات التي تدور بيننا على مواقع التواصل الاجتماعي حول قضايا دينية تتقاطع مع الفلسفة أو العلم، أو حتى في سياق الحياة العملية، - ينمو إليك خبرٌ عن أحدهم، أو تقرأ له، نقداً للخوض في قضايا على علاقة بالدين، فيغالي في استنكار الكتابات التي تناقش الدين أو تبرر بالعقل بعض أموره، جاعلا مساحة اللا مفكر فيه دينياً أكثر اتساعاً، اعتقاداً منه أن هذه أمور ميتافيزيقية يجب حجبها عن العوام و ألا تصل إليهم، مقدماً أسوأ نموذج سلوكي إلى العوام، ذلك الذي ينهل من قاموس القذع و القذف، و السب، و كأنك تنشر فسقاً أو فجوراً، و منكراً من القول وزوراً، بينما تزخر كتب التاريخ الإسلامي بمقاربات فكرية عقلية تحليلية ألفت للرد على الشبهات و أمور المحرمات في العقيدة و الممنوعات، و ذم أصناف الفجور و الغلو في العبادات و المعاملات. و جهود هؤلاء في محاولة إخفاء أمور الشبهات و الخوض في كبحها منعاً لانتشارها، بغض النظر عن سيزيفيتها، إلا أنها أيضا محكومة بالفشل مسبقاً، لأنه ليس في وسعكَ منع العامي كبيراً أو صغيراً ذكراً أو أنثى من الوصول إلى مواطن الشبهات و مزالق المنكرات متى ما أراد ذلك، في ظل وجود الإنترنت الذي لا تحده القيم و لا تحكمه الأخلاق، بل اللادين ديدنه و عنوانه ومبدؤه، فعبثاً ننكر على الخائضين في أمور الشريعة خوضهم فيها إن أرادوا إصلاحاً.
فعندما ألف الغزالي كتاب (إلجام العوام عن علم الكلام) كان غرضه الأساسي منه تبيان الشبهات التي لحقت مذهب أهل السنة بعد قرون من رسائل أرباب الكلام في أمور العقيدة، و هي الرسائل التي يرى الغزالي أن إشاعة تداولها بين الناسِ أساءت إلى الدين و أضرته من حيث قَدرت أنها تنفعه، مبيناً في كتاب (المنقذ من الضلال) أنه ليس في وسع العامي تبين العسل من الدم في كأس الحجّام، ورغم تشابه منظري الدم و العسل إلا أن أحدهما نجس قذر و الآخر شفاء طاهر، ووحده المختص من يستطيع مَيز الخبيث من الطيب في مواطن شبهات كتلك، ما يعني أن خوض ذوي الإختصاص في أمورٍ كهذه بعقل ناضج منفتحٍ موجِهٍ (بكسر الجيم) حلاً و ليس مشكلة.
فقد اتفق علماء الإسلام على نقل حكايات و مقالات الكفرة والملحدين في كتبهم التي صنفوها، لتبيان ما فيها من فساد ليُتجنب، ولإبطال شبهها عليهم، مستدلين على ذلك بأن الله تعالى قد حكى مقالات المفترين عليه وعلى رسله في كتابه على وجه الإنكار لقولهم، والتحذير من كفرهم، والوعيد عليه بالعقاب في الدارين، والرد عليهم بما بيّنه في كتابه العزيز، وهو ما نجده كذلك في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة، و هناك مصنفات كثيرة تتعذر على الحصر، كتبها الأقدمون من أئمة السلف قبل عصر التدوين و بعده، فتاريخ الاسلام (القديم و الحديث) مليئ بكتب الردود، بل إن من المذاهب الفكرية و العقدية و طرق التفكير الشاذة عن سواء السبيل مَن لم تعد لها من أفكار معلومة غير التي دونتها كتب الردود للردِ عليها، كما يؤكد ذلك عبد الرحمن بدوي و محمد عابد الجابري في أكثر من كتاب، فهل نقول إن هذه الكتب تنشر الضلال و تدعوا إلى الفجور، و يجب حرقها و سحقها و محقها و التخلي عما فيها حتى لا يسمعه (العوام)؟
إن سياسة تكميم الأفواه عن مناقشة قضايا الدين لم تكن يوماً طريقاً إلى حل مشاكل المتدينين، و لا وسيلة ناجعة لنشر الدين أو تقوية حججه على مخالفيه، وهم اليوم كثر، و نحن من نعيشُ وهَناً و ضعفاً لا تكاد تحده حدود. بل الحل أن ننطلق من الواقع، لا الوهم النابع من القلق و التوجس، و أن نقتنع بأن إخفاء حجج الملاحدة عن العوام غير ممكن في عصرنا الحالي، عصر العولمة و التكنولوجيا، إذ أن كبسة زر في أي محرك بحث على الشبكة العنكبوتية، تجعلك تلامس أعتى شبهات الملاحدة و أقذرها و أكثرها خساسة و مكراً، تلك الشبهات التي يمارس بعض الناس جهلا إخفاءها و ادعاء انعدامها أملا في المحافظة على عقائد الناشئة التي سرعان ما ستتفكك و يبدأ الشك بالتسرب إليها حالما تصطدم بفكرٍ فذٍ أو محاورٍ ملحد ماكر، حفظ الشبهات عن ظهر قلب و أتقن استخدامها، مظهراً الحكمة و اقتفاء المنطق و مبطناً الخبث و المغالطة، فيعتمدها الصبي غير المحصن من حيث لم يدري أن السم في الدسمِ.
فعلينا أن نفكر مليا في حلٍ عملي يناسب المرحلة، و نتجاوز أنماط التفكير المنغلقة المتحجرة، القائمة على إقصاء التفكير و إسكاته، و هو ما يستحيل باطنا، فلن يتوقف العقل عن التفكير، ويصعب تحقيقه في الواقع كذلك. فبدل الهروب، و الاختباء علينا أن نخرج و نواجه كيد الكائدين لهذا الدين، كلٌ بما يحسنه، ليكتب الكتّاب عن تلك الشبهات استنكاراً، و يفندها أهل العقل و الحكمة من أساتذة الفلسفة، و هم جنود معارك الأفكار الذين يحاربون القبحَ و الغلو و التطرف كل يومٍ في عقول أبناء هذا الوطن، فلا غنى عن دورهم المحوري في توجيه عقول الشباب و تقويم اعوجاج مساراتهم الفكرية، و على الحكومة كذلك أن تقوم بدور يخصها، فليس أقل من أن تضيف وزارة التعليم إلى منهاج السنة السابعة من التعليم الثانوي في مادة الفلسفة (كما اقترح أحد أساتذة المادة)عنواناً لحصة عن الإلحاد، تُدرس فيها حجج الإلحاد الواهية و الردود عليها، و هي الحجج التي لا يكاد ينقضي يوم حتى يخرج علينا صبي بحسابٍ مزيفٍ أو حقيقي يأخذ منها، و يسب الله تعالى و الأنبياء عليهم السلام منطلقاً من بذرة شك تركتها لوثة تلك الحجة داخل وعيه الهش.
و ختاماً، أذكر بقول الله تعالى في محكم كتابه للذين يقاتلون في سبيله، إحقاقاً للحق و نبذا للباطل، (فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) صدق الله العظيم.