المنمي في موريتانيا .. رحلة شاقة للبحث عن مصادر العلف / ابراهيم احمد سالم

يلعب  قطاع الثروة الحيوانية دورا رئيسيا في الاقتصاد الوطني, حيث يساهم بنحو15.8% من الناتج الداخلي الخام ويشكل مصدر دخل لحوالي 60% من السكان, حسب تقرير صادر عن  البنك الدولي سنة 2016, ويؤمن 30% من احتياجات البلد من الألبان ويحقق الاكتفاء الذاتي من اللحوم الحمراء مع فائض لا باس به يصدر إلي بعض البلدان المجاورة علي شكل حيوانات حية, وتبلغ نسبة مشاركته في التشغيل 14.6% حسب أخر إحصائيات للمكتب الوطني للإحصاء هذا إضافة إلى مساهمته في الأمن الغذائي و دوره الفعال في تعزيز الأمن والاستقرار والتنمية المحلية ومحاربة الفقر في الوسط الريفي.

وعلي الرغم من هذا الدور المحوري, عاني هذا القطاع من الكثير من التهميش والنسيان علي أيدي الحكومات المتتالية , فظل حظه من الاستثمارات العمومية هامشيا (10-14 % من مجموع الاستثمار في القطاع الزراعي), وظلت التدخلات لصالح هذا القطاع في معظمها مقتصرة علي الجانب الصحي, دون أن نشهد أي تطور ملحوظ في نمط التربية (système d’élevage), الذي لازال في معظمه نمطا تقليديا يعتمد علي الترحال الدائم بحثا عن الماء والكلأ.  ظلت عناصر هذا النظام الثلاثة (الإنسان, الحيوان والمصادر الطبيعة) تتداخل وتتفاعل منذ زمن طويل في تناغم تام لتجود علينا لحما طريا ولبنا سائغا وجلدا وصوفا ناعما ووبرا.. نأكل ونشرب ونلبس ونسكن وتغمرنا السعادة, دون أن يخطر ببالنا ذلك الإنسان الحقيقي الذي يعيش في شقاء ونكد, يندب حظه المتعثر, ويبقي مع ذالك منتصبا, صابرا, محتسبا, يواجه قدره بما أوتي من قوة, متضرعا إلي الله العلي القدير وملتجئا إليه بالدعاء تارة, ومرتحلا مسافرا تارة أخري عبر رحلة شاقة لا تكاد تتوقف بحثا عن الماء والكلأ, يجوب خلالها معظم ربوع الوطن وتقذف به الأقدار أحيانا خارج الحدود, ليجد نفسه وحيدا ذليلا خائفا مترقبا, في محيط محفوف بالمخاطر تكثر فيه النزاعات لأسباب متعددة أبرزها الصراع علي نقاط المياه و المشاكل مع المزارعين وقطاع الطرق والعصابات المسلحة. .... معانات لا تتوقف , ونداء استغاثة مستمر, وضربات جفاف تزداد قسوة سنة بعد أخرى, مخلفة خسائر هائلة, تصل أحيانا حد الكارثة.             قد تستشعر الدولة الخطر كما هو الحال في عدة مناسبات سابقة فتقوم بالإعلان عن "خطة استعجاليه لدعم المنمين", ترصد لها مبالغ مالية معتبرة , وتتمكن من استيراد ألاف الأطنان من العلف المركز, فيبعث الأمل من جديد في نفوس المنمين, ويحدث شيء قليل من الاسترخاء,  لكن هيهات هيهات فهو لن يدوم طويلا, فهناك فيلق من المتسللين يتحينون الفرصة ولا يضيعونها أبدا, فهم بطبعهم طفيليون, نهمون, يأكلون من كل الموائد, وفي كل المناسبات. تضيع الفرصة أيضا هذه المرة علي المنمي المسكين, ويتعثر حظه من جديد, ويبدأ القنوط يساوره من كل حل يأتي من أهل الأرض, لكن المنمي المسكين من أهل الإيمان و الدين, فهو يصلي والناس نيام  ويتوكل علي الحي السبحان ويعرف أن في القران يقول رب الأنام بعد يسم الله الرحمن الرحيم {{وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد }} .

هنا وأمام هذه القصة الحزينة, وأمام هذا الواقع المرير, يصبح من الضروري التفكير في حلول جذرية و مستدامة تجعل من التكامل بين الزراعة والتنمية الحيوانية أولوية وضرورة قصوى, حتى نتمكن من إدخال الحيوان في الدورة الزراعية وتطوير زراعة الأعلاف والاستفادة من المخلفات الزراعية. وقبل أن استعرض هذه الحلول بشكل سريع نظرا لضرورة الاختصار, سأتطرق بشيء من الإيجاز لبعض المفاهيم المتعلقة بتغذية الحيوان أولا:

المادة العلفية: هي كل مادة يمكن استعمالها في تغذية الحيوان و يمكنه هضمها والاستفادة منها وتصنف هذه المواد بالنسبة للحيوانات المجترة إلى صنفين اثنين :

أعلاف مالئة: كالمراعي والنباتات العلفية والتبن والدريس و السيلاج  وهي في معظمها غنية بالألياف النباتية وفقيرة بالطاقة  لكنها ضرورية لعملية الهضم عند المجترات  وهي تمثل الوجبة الأساسية للحيوان المجتر%)70 (وهي رخيصة بالمقارنة مع الأعلاف المركزة  

أعلاف مركزة :كالحبوب النجيلية (الذرةالبيضاء والصفراء والشعير والقمح ...) والحبوب البقولية (الفاصوليا واللوبياء والفستق وفول الصويا ....) ومخلفات مصانع الأغذية كالكسب(ركل):وهي نواتج مخلفات صناعة الزيوت       والنخالة: وهي ناتج مخلفات دقيق القمح. وتمتاز الأعلاف المركزة أنها فقيرة بالألياف غنية بالطاقة والبروتين, وهي تمثل الوجبة الثانوية للمجترات (30%) و تمتاز أيضا بأنها غالية الثمن .

مما سبق يتضح أهمية العلف المالئ  وضرورة توفره لضمان تغذية متوازنة للحيوان وخاصة أننا في موريتانيا نعتمد بشكل أساسي (اكثرمن 90%) علي مصدر وحيد من مصادره ألا و هو المراعي الطبيعية والتي تخضع للظروف المناخية التي تشهد هي الاخري تقلبات كبيرة نتيجة لتغير المناخ, مما زاد من موجات الجفاف والكوارث الطبيعية الاخري.

أما بالنسبة للعلف المركز, فهو ضروري أيضا كمصدر للطاقة والبروتين, خاصة حين تكون المراعي فقيرة. ويراعي في اختياره عدة عوامل أهمها :أن يكون ذا قيمة غذائية مرتفعة , وان يكون سعره غير مرتفع وان لا يكون من المحاصيل التي يعتمد عليها الإنسان في غذائه حتي لانخلق منافسة بين الحيوان والبشر.

الحلول المقترحة

تتلخص الحلول المقترحة فيما يلي :

إدارة وتسيير معقلن للمراعي الطبيعية وذلك من خلال تعزيز دور السكان المحليين وإشراكهم في جميع الجهود المبذولة لحماية المراعي وتسهيل ولوج المنمين إلي المراعي ومصادر المياه إضافة إلي إطلاق حملات توعية وتحسيس لسكان الأرياف حول ضرورة حماية البيئة والحفاظ علي الوسط الطبيعي .

تطوير زراعة محاصيل الأعلاف الخضراء من خلال تخصيص مساحات شاسعة لهذا الغرض واختيار الأصناف ذات المرد ودية العالية والقابلة للتأقلم مع الظروف البيئية المحلية, وضرورة الاستفادة من التجارب الميدانية والخبرات الوطنية في هذا المجال.

تكوين وتدريب الفنيين والمزارعين والمنمين علي تقنيات إنتاج وحفظ ومعالجة الأعلاف(كصناعة الدريس والسيلاج ) وتشجيع صغار المنتجين والتعاونيات النسوية والشباب العاطلين عن العمل علي إنشاء مشاريع صغيرة لإنتاج الأعلاف      

استغلال وتثمين جميع المخلفات الزراعية والصناعية الغذائية للاستفادة منها في تغذية الحيوان وفي هذا الإطار ومن اجل الاستفادة القصوى من مخلفات زراعة الأرز(التبن) ينبغي اقتناء ماكينات لكبس بالات التبن علي شكل مكعبات حتي يسهل نقله إلي مزارع الحيوان

إقامة مصانع لأعلاف الحيوان ومصانع للمواد الغذائية ذات المخلفات القابلة للاستخدام في تغذية الحيوان كمصانع الزيوت والتمور وتقشير الارز والمطاحن ...

هي إذا نقاط سطرتها بعجالة لتسليط الضوء علي واقع هذا القطاع الهام والمحوري الذي ظل يعاني منذ تأسيس الدولة الموريتانية من التهميش و النسيان, وكلي أمل أن يتم إنصافه من خلال "تمييز ايجابي" يعوضه عقودا من الغبن والحرمان, وهو بلا شك ما سوف يتحقق علي يد السيد الرئيس محمد ولد الشيخ القزواني الذي شكل أملا جديدا لهذا الشعب في الرقي والازدهار والتقدم . فقد كان  من صميم تعهداته تطوير قطاع التنمية الحيوانية والنهوض به من خلال مجموعة من الإجراءات نذكر منها هنا علي سبيل المثال تعهده بإنشاء ثلاث أحواض لزراعة الأعلاف علي مستوي كوركل و لبراكنة و الترارزة,  وقد ترجمت تعهداته في  برنامج حكومة معالي الوزير الأول السيد اسماعيل ولد بده ولد الشيخ سيديا  الذي تقدم به أمام البرلمان وأعلن خلاله " ان حكومته ستجعل من التكامل بين الزراعة والتنمية الحيوانية احدي أولوياتها . وستركز الجهود في هذا المجال علي زيادة الاعتمادات المالية المخصصة للتنمية الحيوانية من اجل تحسين صحة الماشية, وترقية نمط التربية الكثيفة , وتطوير السلالات , وتشجيع إنتاج الألبان , وإقامة منشات حديثة لهذا الغرض" . كما لا يسعني هنا إلا أن انوه بما تضمنه المؤتمر الصحفي الذي عقده معالي الوزير الأول مساء السبت من خلال تأكيده علي أن تحقيق الاكتفاء الذاتي بات هدفا رئيسيا لحكومته في ظل عدم إمكانية الاعتماد علي الخارج في تحقيق الأمن الغذائي, وهو ما سيتلخص بالعمل علي قطاعات الصيد والزراعة والتنمية الحيوانية . وكنت قد كتبت مقالا سابقا يعالج موضوع الأمن الغذائي وضرورة تحقيق الاكتفاء الذاتي , يمكن الاطلاع عليه علي الرابط التالي:

 

http//rimnow.net/w/ ?q=node/12082

16. يونيو 2020 - 9:30

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا