لماذا نحب الصالحين ونكره المصلحين!!؟ قراءة في بعض أبجديات الإصلاح / د.محمد الأمين بن حمادي

يروى عن الأمام الشافعي رحمه الله تعالى شعر جميل يقول فيه:

أُحِبُّ الصالِحينَ وَلَستُ مِنهُم   لَعَلّي أَن أَنالَ بِهِم شَفاعَه

وَأَكرَهُ مَن تِجارَتُهُ المَعاصي وَلَو كُنّا سَواءً في البضاعة

والإمام الشافعي كما هو معلوم رجل صالح ومصلح وإمام من أئمة الإسلام الأربعة. أكاد أجزم أن البيتين غرضهما تعليمي تربوي يصف فيه الشافعي على لسانه أحوال بعض الناس.  

وقد لا يميز البعض بين الصالح والمصلح والواقع أن بينهما فرقا كبيرا فالصالح هو ذاك الذي يهتم بصلاح نفسه في الأقوال والأفعال وجميع الممارسات. أما المصلح فهو الذي يتعدى فعله نفسه إلى غيره فهو يعمل على إصلاح حال الناس. ولعل الفرق الجوهري بين الصالح والمصلح يتجلى في أن الأول محبب عند الناس أما الثاني فيكرهه الناس. وهذا المعنى ورد منه شيء في بيتي الشافعي المذكورين آنفا. فالناس يحبون الصالحين لأنهم يتجنبون المعاصي وقد ينال الناس بشفاعتهم توبة من الله بل ويكرهون المفسدين حتى وإن كانوا هم أنفسهم من المفسدين.

لكن الصالح محبب أيضا لأنه لا يتعرض لأحوال الناس ولا ينتقدهم ولا يعترض على مخالفاتهم لسنن الحياة ونواميس الكون أو مقتضيات الشرع. وما دام الصالح قد ترك الناس يتعاطون ما يشاؤون من أفعال وأقوال سيئة كالسرقة والكذب والخيانة والرشوة والاعتداء على أعراض الناس وأموالهم فهو لذلك محبب لا يناله مكروه ولا يلحقه أذى ولا يتعرض له أحد بسوء، بل يتركه الناس يعيش حياته في برجه العاجي بعيدا عن تعقيدات الحياة. فالصالح بهذا المعنى هو ذلك الانسان الذي يصلح ما بينه وبين ربه وما بينه وبين الناس ولا يتعدى ذلك.

أما المصلح فهو الذي يتولى إصلاح الناس، ويقوم بتوجيههم وإرشادهم، ويقوم مع المظلوم ويأخذ على يد الظالم ويسعى في مصالح الناس ومنافعهم، فهو بهذا المعنى صالح ومصلح، يسعى لإصلاح نفسه، ويجتهد في إصلاح غيره.

وبناء على ما تقدم نستنتج أن لا غضاضة في أن يكون الشخص صالحًا لأنه لا يسبب الإزعاج لأي كان، وخصوصًا أولئك الذين تقوم مصالحهم على الظلم والاستبداد وشتى أنواع الفساد. هؤلاء يهمهم أن يهتم الإنسان بنفسه دون التدخل في شؤون الآخرين. أما إذا تعدّى الأمر للغير وأصبح الصالح مُصلحًا يريد إصلاح المجتمع فهذا أمر صاحبه يتعرض للكثير من الرفض والإقصاء بل والتنكيل من تلك المجموعات المتضررة من أعماله الإصلاحية.

وإذا تأملنا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها وتعامل قريش معه في كلتا الحقبتين لوجدنا مثالا معبرا عن تغير رؤية المجتمع للفرد بحسب أن يكون صالحا أو مصلحا. قبل البعثة لما كان محمد ﷺ في أعين الناس رجلا صالحا يمتنع عن ممارسة ما يفعلونه من أعمال تخالف الفطرة والحنيفية السمحة نجد أن المجتمع المكي كان يصفه ﷺ بالصادق الأمين، وكانت الناس تلجأ إليه في كثير من الأحيان وتضع عنده ودائعها. لكنه بعد نزول الوحي والتكليف بتبليغ الرسالة تحوّل إلى مُصلح. عند ذلك انقلبت الأمور رأسا على عقب وتصدت له قريش ووصفوه بأقبح الأوصاف. واتهموه بأنه شاعر، أو كاهن، أو مجنون، إلى آخر الأوصاف الذميمة، ولم يكتفوا بذلك بل حاربوه، وأخرجوه من بلده، فاضطر صلى الله عليه وسلم أن يهاجر من مكة إلى المدينة.

لماذا عادت قريش محمدا ﷺ؟ هل أكل مالا حراما، هل سفك دما، هل اعتدى على الأعراض؟

لا لم يفعل شيئا من ذلك بل على العكس تماما فإنه ﷺ لم يأمر إلا بمعروف ولم ينه إلا عن منكر. لكن ذلك لم يمنع الناس من معاداته. أو على الأصح لم يمنع المتضررين من دعوته الذين لا يرغبون في الإصلاح من معاداته لأنه أصبح يهدد مصالحهم، فهم مستعدون لفعل أي شيء من أجل التخلص منه ولو بقتله وقد حاولوا ذلك. وسيرة الرسول ﷺ كلها دروس وعبر لمن آتاه الله عقلا وحكمة.

إن كُره غالبية الناس للمصلح تشبه كُره الطفل للطبيب، ذلك أن الطفل لا يعي أن الطبيب وإن كانت إبره مؤلمة وعقاقيره مرة فإن أثرها محمود ونتيجتها نافعة وضرورية لتستمر الحياة. وقد لا يكون سبب الاعتراض على الإصلاح هو أن المعترض مفسد أو فاسد . بل قد يقون السبب بكل بساطة أن الإصلاح والتغيير غالبا ما يصاحبه إعادة النظر في المكتسبات التي تحصل عليها الناس ولا يرغبون في التخلي عنها تحت أي ظرف. ولذلك فإن من سنن الحياة أن محاولات الإصلاح غالبا ما تتلاقاها الناس بالرفض والمعارضة وهذه الوضعية طبيعية. وفي هذا المعنى يقول إيدي فوجييه Fougier  Eddy  خبير الشؤون السياسية المتخصص في حركات الاحتجاج والباحث في معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية IRIS: " في زماننا اليوم، تؤدي الاصلاحات إلى الشعور بفقدان شيء ما" وقد ورد كلام إيدي فوجييه في معرض حديثه عن موضوع يشغل بال الساسة والمفكرين في فرنسا وهو كون المجتمع الفرنسي عصيا على التغيير والإصلاح.  وحجة المدافعين عن هذه الفكرة أن الفرنسيين أكثر المجتمعات تعاطيا مع الاضرابات حتى صاروا بذلك مضرب المثل في المجتمعات الأخرى. وعلى النقيض من ذلك يرى بعضهم أن الأمر يتعلق بطبيعة التغييرات والإصلاحات المرجوة. ويتخذون مثالاً لذلك ما حصل في خمسينيات القرن العشرين. في تلك الفترة كان يقال إن فرنسا الريفية لن تتكيف قط مع المجتمع الحديث. لكن الذي حصل هو تحديث وعصرنة جذرية للمجتمع الفرنسي؟ والسبب في رأيهم أن الفرنسيين اقتنعوا بضرورة التغيير وما سينتج عنه من فوائد سريعة وملموسة.

لكن منذ الثمانينات لم تفلح أي حكومة فرنسية في إقناع الفرنسيين بتغيير السياسات الاجتماعية لأن تلك       " الإصلاحات" كان الهدف منها أن تأخذ في الحسبان إكراهات العولمة والمجتمع المتعدد الثقافات ولم تكن تسعى لحماية المجتمع الفرنسي من التأثيرات السلبية للعوامل الخارجية.  ولم يفلح شيء من تلك المحاولات لأن المجتمع لم يقتنع بجدوى تلك التغييرات.

في مجتمعنا يحب الناس الاصلاح لكنهم في الغالب لا يبذلون جهدا للمساهمة فيه، بل غالبا ما يستعجلون نتائجه أو يستبطئونها. وقد حصلت لدي قناعة منذ زمن أن أخطر أعداء الإصلاح أن يكون المواطن غير مقتنع به أو غير واع لحصول التغيير الناتج عن جهود الإصلاح فتراه يشكك في حقيقة الاصلاح وفاعليته بل يسعى لتقويضه مقابل استفادة آنية لا تلبث أن تضمحل. إنه يهدم بيديه كل ما تم بناءه من أجله فكأنه ينقض غزله من بعد قوة أنكاثا. وكما هو معلوم فإن الهدم أسرع من البناء.

19. يونيو 2020 - 9:34

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا