علاقة الدولة بالعنف تصنع حرية المواطنين أم تعدمها ؟! / زين العابدين محمد العباس

لا يتم التفكير في علاقة الدولة بالمنتمين إليها إلا وتسللت معضلة تتفجر تناقضاً وتعلن عن ضرورة معالجتها، ففي الوقت الذي تكاد تغادر فيه القوة كل حكم سياسي يشترط الفرد طريقة خاصة من الممارسة السياسية تحفظ له حريته التي تكون الأمر الذي حتم التشريع لنوعية من الأنظمة السياسية لا تتعارض فيها قوة الدولة مع حرية المواطنين وإنما تصنعها وتوفر شروط تحققها.

فأي معنى يقتضيه فهم قوة الدولة؟ هل يجب الإقرار بأن ما تستحوذ عليه الدولة من قوة يتعارض ضرورة مع كل إمكانية لحماية حرية الأفراد المنتمين إليها أم يجب القول إن الدولة تحتاج من القوة ما يجعلها تضمن استقرارها الذي به وحده يتحقق أمن المواطنين و حريتهم؟ وإذا سلمنا بهذه العلاقة التي تربط بين الحرية و المواطنة ألا يعني هذا الاعتراف شكل الحكم السياسي للدولة وهو النظام الديمقراطي؟ ألا يجوز القول إن التلازم بين الدولة والقوة لا يجعل من الدولة إلا أداة هيمنة وقهر مهما عملت على الحد من قوتها أو الحرص على توجيهها؟

في الحقيقة تعني القوة في معناها العام مجموعة الاستعدادات ذات النفوذ المادي كقدرات يتمتع بها البعض ويستعملونها كأدوات لحفظ حرياتهم وحماية حقوقهم، فالقوة هي الوسيلة التي تستند إلى تكريس نوع من العنف وهي نوعان؛ قوة مادية - قوة مجردة، وعلاقة الدولة بالقوة وحاجتها إليها تتخذ حاجات استعمالية مختلفة بحسب الوظيفة التي توكل إليها؛ حيث تحتاج الدولة إلى القوة لتحقيق سيادتها وحفظ حكمها والاستمرار فيه وضمان وحفظ أمن أفرادها وحرياتهم داخلها، والقوة هنا لها خصائص ففيها قوة غير شرعية تستند إلى استعمال القوة دون وجه الحق، وقوة شرعية تعول على قوة الحق وتعمل على تكريسه في ممارسة حكمها بما يحفظ انتماء أفرادها المنخرطين داخلها، وينبني استعمال هذا النوع من القوة للدولة على أساس اتفاقي وأصل قانوني ...

فالقوة الشرعية للدولة تصنع حرية المواطنين ومعنى المواطن وعلاقته بالدولة الديمقراطية، وقولنا "تصنع" يتضمن في ذاته ما يميز بين أنواع الحرية؛ الحرية الطبيعية وهي الأساس الطبيعي للحرية الذي يتأسس على ما هو مطلق، والحرية المدنية والسياسية التي تتأسس على ما هو مقيد بما يكفل تحقيق حرية الجميع دون اعتداء الواحد على الآخر، إذ تستعمل الدولة الديمقراطية القوة الشرعية لحماية حرية مواطنيها.

إن الحرية الديمقراطية هنا تنطلق من الاعتراف المتبادل بين من يحكم وبين من يخضع مما يجعل الأفراد أي المواطنين المنتمين للدولة يشاركون في الحكم وهو ما يعني مبدأ الاعتراف بهم لا مجرد كائنات تنتمي للدولة ولكن كمواطنين أحرار و فاعلين داخل ممارسة الحكم السياسي، وتتجاوز الدولة في هذا الاتجاه مبدأ إخضاع الأفراد لسلطتها بموجب ما تتمتع به من أدوات القوة والنفوذ نحو توجيه نظام حكمها توجيهاً أكثر تشاركاً يستعيد فيه الأفراد كيانهم السياسي الذي يعبر عن إرادتهم، أما الحرية المدنية داخل الدولة الديمقراطية فيحكمها العقل وتخضع له كما الحرية في الأصل؛ حيث تكفل الدولة الديمقراطية الحرية لا تلك الحرية التي توجهها الرغبات وإنما هي حرية العقل ذاته.

ولا يتحقق هذا المشروع إلا إذا ما أمكن للإنسان «المواطن» التخلص من أهوائه وانفعالاته والانقياد للإرادة العامة "طاعة الإرادة العامة تحقيق للحرية"؛ فوحدها الإرادة العامة تستطيع توجيه قوى الدولة وفق الغاية التي أنشئت من أجلها وهي "الخير المشترك"، ولا يتأتى حصول هذا إلا بالالتزام بروح القوانين كقوة مجردة بإمكانها أن تتحول إلى قوة تدافع عن الحق و تمارس الحياد والموضوعية التي من شأنها أن تحقق المساواة بين الجميع. ومن هذا المنطلق تكون المكاسب الوطنية، وتكون الدعوة إلى تجاوز استعمال القوة بالمعنى الفاشي والدكتاتوري فإذا كان من الضروري التعويل على القوة؛ فعلى الأقل يجب توجيهها، إذا لم يكن بالإمكان التخلص من قوة الدولة فيجب على الأقل الحد من استعمالاتها بإخضاعها للمراقبة الشرعية: [ الرفع من قيمة المواطن؛ التفعيل السياسي لحضور المواطن داخل الدولة؛ تجاوز التصور الشائع عن علاقة القوة بالدولة ... ] والتي تختزل القوة كعنف نحو إنشاء صورة أخرى لها تجد أرقى أشكال تحققها في القانون !!

لقد أمكن إذاً لنموذج الدولة الديمقراطية أن يعالج إشكال حقيقياً يخص أسلوب استعمال القوة دون انحراف بها من ناحية مثلما يخص طاعة الإنسان للدولة يتجاوز الإحراج الذي يشعر به الإنسان الذي أطاع غيره كإنسان نحو إيجاد نموذج صوري للطاعة وأكثر حماية للإنسان «المواطن» من انحرافات قوة الدولة، فمن المعلوم نظرياً أن قوة الدولة تنبني على الاعتراف بحرية المواطنين وهو تصور إجرائي يكذبه الواقع السياسي لأن الغاية الأولى للدولة هي حماية حرية السلطة وصلاحيتها وليس الدفاع عن حرية المواطن، ونشير هنا إلى أن مفردة "تصنع" في العنوان قد تحيل داخل الموضوع إلى الافتعال وهو ما يحول حرية المواطنين داخل الدولة إلى حرية مصطنعة ومفتعلة في حين يحتاج المواطن إلى حرية حقيقية وواقعية، فالحرية لا تحتاج لقوة تحققها لأن المواطن أي «الإنسان» كائن حر بطبعه مثلما يؤكد ذلك فلاسفة العقد الاجتماعي ...

ومن خلال هذه المعالجة المتواضعة جداً؛ يبدو أن علاقة قوة الدولة بالأفراد (المواطنين) لا يمكن فهمها أوتغييرها إلا بتحويل البنية السياسية الخاصة للسلطة، ولا تمر قدرة التنظيم واتخاذ القرار إلا عبر سلطة الإنسان (المواطن) وبمحاذاة كل البشر (المواطنين) بتعبير ريكور. فإذا لم يكن بالإمكان انتزاع القوة من الدولة فعلى الأقل يجب ألا تحتكر من الإكراه المادي إلا ما هو شرعي !!!

20. يونيو 2020 - 21:51

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا