يتواصل حديثنا عن المبادئ والمواقف في السياسة، وفي هذه الحلقة نتوسع قليلا في موضوع إشكال العلاقة بالسلطة بوصفه من أكبر الإشكالات المعروضة على ميزان المواقف والمبادئ والأكثر عرضة للشطط أو التساهل.
وأعتقد أنه في مقابل ما حصل من تزلف ونفاق للأنظمة المتعاقبة في البلد، حدثت ردة فعل غير واعية تجاه كل ما له علاقة بالسلطة، بل وحتى بالدولة ورموزها، فأصبح كل لقاء وكل حوار، هو سعي للتخلي عن المعارضة، وكل سعي لاكتساب حقوق يكفلها الدستور والقانون هو خيانة للوطن ونكوص عن الديمقراطية.. وأصبحت المعارضة بالنسبة للبعض غاية لا وسيلة..
وهذا خلل في الفهم وخطأ في الممارسة، فكما نحارب نزعات التلون والنفاق وبيع المواقف والتخلي عن المبادئ، يجب أن نحارب كذلك نزعات التشدد والجمود والتكلس على المواقف ففي كل شر، فتمييع السياسة مضر، كما أن التحجر والجمود مضر أيضا.
·العلاقة تتحدد بطبيعة النظام:
يجب أن نعي أن العلاقة مع السلطة ومع الأنظمة الحاكمة دعما أو معارضة تهدئة أو تصعيدا، لا تدخل بالضرورة في دائرة المبادئ والثوابت التي لا تتغير ولا تتبدل، ولا تدخل لزوما في دائرة المواقف الصائبة، فقد نخطئ بمعارضتنا كما قد نصيب في موالاتنا، سواء بسواء، وإنما هي مواقف سياسية تخضع للتقدير المصلحي لهذا الطرف أو ذاك، ولطبيعة النظام نفسه وما يقوم به أو يعد به من إصلاحات..
وحتى لو اتصف النظام ببعض فساد أو نقص في الشرعية أو أحادية في التسيير، فلا يعني ذلك أن كل ملتحق به أو متعاون معه هو متنازل عن المبادئ ناكص عن الثوابت، وإنما هي مقاصد الناس، وما يحققون في الواقع من إيجابيات، أو يجترحون من أخطاء هي التي تصلح سندا للحكم عليهم، أو حين يكون النظام من السوء والفساد وانعدام الشرعية بحيث لا يرجى معه تحقيق مصالح معتبرة، أو درء لمفاسد معتبرة.
·وعهد الأنظمة الشمولية ولى:
وفي رأيي أن عهد الأنظمة الشمولية الغالبة الفساد المتمحضة الضرر قد ولى، ولا يعود ذلك ـ بالضرورة ـ للأنظمة نفسها، ولكنه التراكم الطبيعي وتطور الأحداث يفرضان ذلك، فنحن ـ على الأقل في موريتانيا ـ في بواكير تحولات ديمقراطية عميقة، سيسعى فيها الحاكم ـ مكرها ـ لتقديم تنازلات، وتحقيق إنجازات ملموسة تقنع الناخب الذي بدأ تدريجيا يمتلك زمام خياراته، كما أن الضمانات المؤسسية والقانونية تعززت بدرجة يصعب معها تزوير هذه الإرادة إذا وجدت حماة وعاة يحرسونها ويدافعون عنها.
·الخلاف لا يفسد للود قضية:
وبالتالي فإن التباين في التقويم قائم وسيتعزز، فقد يرى البعض ـ مثلا ـ أن النظام الحالي يختلف عن سابقه، وأن فيه الخير والمصلحة للبلد، وينبغي أن تتاح له الفرصة والوقت ليثبت جديته، وفي المقابل يرى آخرون أن النظام ليس جديدا، وإنما هو امتداد لسابقه، وأن ما مضى من الوقت يكفي لنستطلع طبيعة حكمه وكيفية تعاطيه مع الإشكالات والأولويات الوطنية الكبرى، وبالتالي كاف لأن نحكم عليه سلبا أو إيجابا، وهذا خلاف سياسي مستساغ لا مجال فيه للسب ولا للتخوين ولا للتشكيك في النيات، ولا الطعن في حرص أي كان على المصلحة الوطنية.
·كفتا الميزان:
لا تعتبر العلاقة بالسلطة والموقف منها قربا أو بعدا تصعيدا أو مهادنة، كافية ـ وحدها ـ للحكم على موقف شخص أو مجموعة، ولا الأحقاد والعداوات الشخصية تكفي لتقنع الناس بخيرية فلان أو علان، وإلا لكان محمد ولد عبد العزيز والمتحلقين حوله هم أكبر الوطنيين والمبدئيين، وأحقهم بالاحتفاء والدعم! وكان يحيى ولد أحمد الوقف وصالح ولد حننا ومحمد محمود ولد أمات وعمر الفتح وغيرهم من الأخيار، من أحق الناس بالنكير والتشهير والاتهام.. فالميزان الصحيح للحكم على الناس هو النظر الكلي في ماضي مسار الإنسان مع واقع أدائه الحالي، فأحرى حينئذ أن ننسب الأمور فلا نظلم أو نطفف.
والخلاصة أنه لا تقاس المبدئية بحدة الخطاب ولا بتشنجه وانفعاله، ولكن بإقناعه وتماسكه، وتعبيره عن حقيقة معاناة الناس وهمومهم وتطلعاتهم.. ولا تقاس المصلحة الوطنية بلين الجانب أوالتغاضي، بل المصلحة في المواقف المؤسسة، والخطوات المدروسة المبررة، وعلى الساسة أن يدركوا جيدا، أن وراءهم شعبا بدأ يزيد فيه الوعي وينتشر، ونخبا منصفة تزن الأمور وتقدرها، فليحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا، وليدرسوا مواقفهم وليتحلوا بالحكمة والمسؤولية، والحكمة في السياسة هي الموقف المناسب في الموضع المناسب:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
مضر كوضع السيف في موضع الندى
(يتواصل إن شاء الله)