مقدمة، التخلف يحمل عدة محاور مختلفة، ربما هي سبب في انتشاره بين المجتمعات، إما عن جهل كمية الثروات الطبيعية والمعنوية التي قد يمتلكها المجتمع، وإما من سوء التصرف وانعدام التنظيم والتخطيط والتسيير لها، وانعدام وجود نظرة مستقبلية واضحة لاستدامتها. وإما إلى الخلل في معرفة أولويات المجتمع، وبالتالي يحدث ارتباكا للعملية التنموية والتطويرية في المجتمع، او بمعني اخر التخلف نتيجة لتصرفات سيئة معينة في مكان معين. وفي بعض المجتمعات العربية فالتخلف هو نوع من التنمية الخاطئة او السيئة، نتج عنها خضوع وتبعية للاستعمار، واستغلال الشركات الرأسمالية الأجنبية لموارد البلدان الطبيعية. و هذا الأمر يدفعنا إلى طرح التساؤلات التالية:
ما هي عوامل و أسباب التخلف في بعض البلدان العرببة ؟ وما مظاهره و تجلياته ؟ وكيف تستطيع هذه البلدان القضاء على ظاهرة التخلف و السير في ركب الأمم المتقدمة ؟
وقفة ألم..
تتمثل مظاهر التخلف في بعض الدول العربية في عدة مشاكل متشابكة ومتداخلة، بحيث يستحيل الخلاص منها في وقت واحد، مهما كانت الإجراءات وأيا كانت فاعليتها وشموليتها. فالاشكالية التي تواجهها مع التخلف وصعوبة مواكبة مسيرة التطور مزدوجة، أولها يتعلق بـمظاهر التخلف وتجلياته الواضحة في المستويات المختلفة، سواء الثقافية، الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية ..
ثانيا بالأسباب التي جعلت هذه الظاهرة موجودة ومستمرة سواء أمتلك البلد ثروة أم لا.
إن تخلف القاعدة الإقتصادية فيها، من أسباب تخلف الطابع الاقتصادي والإرادي والعملي للعملية التنموية، وقوى الإنتاج الذي تسهم بدورها إسهاماً فعالاً في تحسين آلية العمل، وتحسين مستوى الإنتاج. بعضها قديم وبعضها عام تتجدد مع تجدد اشكال وانماط التخلف. وبعضها يحتاج علاجه إلى فترة طويلة، حتى في حالة توفر كل من الإرادة والمال.
أما ما يتعلق بتخلف جوانب الحياة العامة الاخري، مثل الأخلاق والتشريع والأحزاب السياسية، وأشكال الإدراك والوعي الفكري والفن الوظيفي، الذي يوظف في التطور والتماسك الاجتماعي عن طريق معالجة مشاكلهم. وكل العلاقات الإجتماعية والثقافية في سياق نشاط الناس، التي تتأثر أيضا بدورها بوسائل الإعلام سواء الوطني أوالأجنبي، و التربية والتعليم والمنظومة العامة الحياتية للمجتمع من جهة، ومن جهة أخرى إنعدام حسن الفهم لثقافة الهوية الوطنية وروح الانتماء والوعي بها، الذي ينعكس على المجتمع سلبا، ويؤدي بدوره على سبيل المثال ضعف النسيج الاجتماعي وضعف الإقتصاد.
عندما نلاحظ في الولايات المتحدة الأمريكية والتي تتكون من مجتمع خليط من الأجناس، نجد ان من اسباب قوتها، قبولها للهوية الأمريكية والرضا بقانونها والتي يحميها القانون- فربطها لمفاهيم الوطنية مع المجالات العامة كالمجال الاقتصادي، السياسي والاجتماعي هو ما أدي الى هذه القوة الخارقة.
إن إستمرار العلاقات الطائفية، الجهوية والقبلية أي "النعرة" على ذوي القربى كما وصفها ابن خلدون في المقدمة، على حساب نهضة الناس بأي درجة كانت، هي من السياسات الضيقة عند البعض. إضافة الى التوازنات العشائرية التي لا تخدم المصالح العامة للناس - وإنما البناء والنهضة يكون بالخبراء و النخب والكفاءات وليس بالتوازنات القبلية والجهوية أو لعبة الروابط الخاصة وما شابه ذلك.
إن التفكك الإجتماعي وضعف التلاحم الوطني والنظرة الرجعية للمرأة وضعف الثقافة الوطنية والإنتشار الواسع للاميِّة الأبجدية والوظيفية، الذي أدي بدوره الي الإستهلاك والتقليد الاعمي لكل مايحدث وياتي من خارج البلد من أمور. كما أدي الي التوقف عن روح العصر والتبعية الفكرية وإحلال الثقافة الغربية محل الثقافة العربية والوطنية.
والمسألة الأكبر والأخطر عدم الإدراك بأن الإنسان هو أساس النهضة وهدفها المنشود، وبالتالي فبدون تعليمه و وعيه و تصنيفه لا وجود للنهضة والتطور. و كما ذكر ابن خلدون في مقدمته أن” الإنسان غاية جميع ما في الطبيعة، وكل ما في الطبيعة مسخر له”. هذا الإنسان الذي يجب أن يكون محور تركيز جميع الأنشطة المعدة في اتجاه تحقيق التنمية. فبناؤه وتطويره يجب أن يكون هدف رئيسي واساسي لأي مقاربة تنموية.
فمثلا كثيرا من الدول التي اهتمت بالإنسان وتعليمه وتنميته كهدف رئيسي و باساليب حديثة وبالبحوث العلمية، أصبحت اليوم دول متقدمة رغم أنها كانت ضعيفة في إمكانياتها وثرواتها الطبيعية. فكان عملها ذلك في سبيل الإنسان، ومثلت نجاحا في مجال التنمية في زمن قياسي على سبيل المثال ماليزيا و سنغافورة.
فقد ركزت هذه الدول في السبعينات من القرن الماضي على الإنسان، وتذليل كل ما لديها من إمكانات في سبيل تطويره. لا يمكن لأي مجتمع أن ينهض او يتطور دون الاهتمام بالإنسان والتركيز عليه. ان بعض الأقطار العربية يمتلكون ثروات طبيعية أكثر من هذه الدول، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا لم تتطور هذه الأقطار؟ الجواب بسيط ومباشر في اعتقادي هو إهمالهم للإنسان، كهدف أساسي في العملية التنموية. وتركيزهم على مشاهدة تطور البلدان، ونسوا أن الوعي و التنمية تنبعان من الداخل ولا تستوردان من الخارج. لأنهما يتكونان في ظروف اجتماعية مغايرة لا يمكن استيعابهما في مجتمع مغاير بصورة صحيحة وشاملة.
اذا إن غياب التشخيص العلمي والموضوعي والإستراتيجي الدقيق لمشاكل المجتمعات، من جهة الإمكانيات والوقت وغياب القطاع الخاص هي ازمة البعض مع التخلف في اعتقادي، وهوما نتج عنه الصورة الغائمة الإقتصادية والإجتماعية والثقافية التي تسير عليها البلدان.
فموريتانيا مثلا استقلت منذ ستين عاما، فما تعانيه من مشاكل اقتصادية وبالرغم من مقدراتها الطبيعية الكبيرة، يعود للنقص في التكامل مع القطاع الخاص، لأنه ليس له دور في خلق القيمة المضافة. فثقافة الاستثمار ليست متواجدة في عقولهم بل تجاربهم ربحية بحتة. القطاع الخاص الموربتاني يجب ان يغير توجهه الي الاستثمار في المجالات الثلاثة؛ الثروة الحيوانية، الزراعة والصيد البحري توازيا مع الدولة وهو ما سيؤدي الي الحد من البطالة والاكتفاء الذاتي. وهنا متفائلة بالرغم من قصر المدة، خصوصا بعد الإعلان عن مشاريع كبري في المجالات الثلاثة السالفة الذكر، في سياسة الدولة كلمسة تصحيحية في مجال التنمية الحيوانية، علما أن 70 % من السكان يعيشون ومرتبطين ثقافيا به. أضف إلي هذا أن الدولة تمتلك ضفة نهر تمتد ما يزيد على 700 كلم صالحة للزراعة بالإضافة إلى السدود والأدوية. اما مجال الصيد البحري فهي تمتلك بيئة غنية بالاسماك لوجود الجرف القاري، من نواذيبو الي انجاكو اكثر من 700 كلم.
وهي مشاريع عملاقة اذا مادرست علميا، فستغير من الحالة الاقتصادية و ستخفف من البطالة. ونتمني ان يولي علي هذه المشاريع خبراء ومتخصصين و أمناء علما ان موريتانيا مليئة بهم.
خاتمة
إن صعوبة تطبيق الاستراتيجيات التنموية، و اعتبار أن الفساد أمر عادي او طبيعي. وعدم استقرار البيئة السياسية الحاكمة التي تؤدي الى عدم استجلاب راس المال الاجنبي، والاهتمام بالأمور السياسية دون البرامج التنموية التطويرية، وعدم إلزامية التعليم في المجتمع وعدم الاهتمام بالتعليم الحديث والمتطور، و انتشار ثقافة القبلية والطائفية وسيطرة فئة معينة من المجتمع علي الاقتصاد وعدم المساواة. من جهة، ومن جهة أخرى، الاعتماد على المساعدات التي تأتي من الخارج. كلها عوامل تهيئ الظروف المناسبة للتخلف والتأخر التاريخي لمجتمعاتنا. فبعض البلدان يفضلون الاعتماد على هذه المساعدات بدل حشد المجتمع للإنتاج، المحلي والتشغيل والتصنيع الداخلي بالرغم من الثروات الطبيعية الطائلة وهو ماولد عدم الثقة في النفس وفي الموارد المحلية.
الى متى ننتهي من الهتك القسري لحرمة العقل والتلوث الفكري ؟