بعد إعطاء فخامة رئيس الجمهورية حيزا كبيرا من برنامج تعهداتي لصالح التعليم، وبعد إعلانه التاريخي –ميدانيا- في افتتاح العام الدراسي الحالي عن توجه جديد شعاره: التعليم أولا، بعد ذلك كله تولد أمل كبير بأن يأخذ قطار التعليم مساره الطبيعي ويحمل الشحنة الإيجابية التي ظلت منتظرة لعقود خلت، ويحقق النتائج المأمولة من كهول رافقهم أمل التحقق منذ الصِّبا؛ دون جدوى؛
بعد أشهر من ذلك الإعلان ومباشرة وزارات التعليم مهامها بشكل فعلي؛ فوجئ الجميع بطارق غير محمود (كورونا) عطَّل الجهود وغير المسار وأعاد ترتيب الأولويات؛
وبعد التأكد من حتمية التعايش معه ولو إلى حين؛ واليقين أن الحياة لا يمكن أن تتوقف عجلتها قبل أن يقضيَّ الله تبارك وتعالى على عباده بذلك، بدأ الشروع من جديد في تطبيق التعهدات وتنفيذ الخطط والبرامج الكفيلة بتحقيق ذلك، ولا أهم في ميدان الحياة بعد حفظ وصيانة النفس، وتركيز الجهود في مواجهة الوباء المفاجئ من الشروع عمليا في إصلاح التعليم الذي به تُحفظ النفس و يُحفظ الدين والعقل والمال، ويُصان العرض؛ وكل ماله قيمة أو أهمية.
إن من الأهمية بمكان، بل إن كل الشروط ومُنحصَر الأركان أن لا يكون هذا الإصلاح كسابقيه في التأسيس والبنيان، ولأن جملة الإصلاحات السابقة معلولة في المحتوى والتطبيق وعناصر الثقة وهياكل الإشراف؛ وجبت المصارحة والاعتراف.. فلا يعقل أن تكون هذه العناصر هي مكامن الخلل وبؤر الفساد ثم تظل كذلك ونحن نرجو وننشد الإصلاح، فنتائج الإصلاحات الماضية تتحدث عن نفسها سلبا وتَحْكُم نتائجها التي لم تصل يوما إلى أدنى حدود التوقع على واقع المنظومة التربوية وعلى كل من تقلدوا فيها رفيع المسؤولية.
سنظل في تيهٍ انعدم فيه الضياء مادامت المنظومة التربوية تُدار بنفس العقليات السياسية المحابية وبنفس الأشخاص الذين تفتقت عظامهم ونبت لحمهم من الفساد وعايشوه أزمنة عديدة دون أن يقض مضجعهم إصلاح جاد لا يحابي مفسدا ولا يتنكر لمصلح.
إننا نتطلع إلى غد أفضل بعد الإعلان الأخير عن البدء في تنفيذ خارطة طريق إصلاح التعليم ذات المحددات الثلاث الكبرى؛ المتمثلة في المناهج التربوية والتكوين والكتاب المدرسي، ولكل من هذه الثلاث خصوصية وضرورات وجود ومعيقات تحد من الفاعلية، ولها جميعا نقاط تعد تبعية، لا يمكن تجاهلها سبيلا إلى النهوض بالمنظومة التربوية، وسنحاول ما أمكن التطرق بإيجاز لكل هذه النقاط والمحاور أو المحددات فيما يلي:
1-المناهج التربوية: تعد دعامة أساسية ومحددا هام لبوصلة التعليم وهي نقطة انطلاق –بشكل عام- تحدد طبيعة التكوين الذي يعد السلاح الأول والزاد الأساسي الملازم للمدرس الناطق المُعرَّف بكونه حجر الزاوية في العملية التربوية، وهي المحدد الأساسي لملامح الكتاب المدرسي الذي هو بطبيعته مدرس صامت؛ مُستنطق من المدرس الناطق الذي يصل غاية أدائه وذروة نجاحه إن هو نحج في استخراج ما بين دفتيه وأوصله إلى ذهن التلميذ الذي تذوب كل الجهود التربوية والتعليمية من أجل أن يصل ذلك المحتوى الموجود في الكتاب المدرسي إلى ذهنه بشكل يضمن له الاستفادة الدائمة منه.
2-التكوين: هناك تكوين أوليّ يتحصل عليه المدرس في مدارس التكوين للأساتذة والمعلمين وهو تكوين هام جدا وسند فني يتكئ عليه المدرس بعد نزوله للميدان، لكن التكوين المستمر الذي قد يكون أهم من سابقه غالبا ما يظل مفقودا، وهنا يحصل الخلل عندما تغيب المصاحبة التربوية وتنعدم المرافقة التكوينية والحضور التأطيري الضروري لحماية ونماء المعارف وتكييف الذات وتطوير الفنيات.
3-الكتاب المدرسي: هو المدرس الصامت –كما أسلفنا- وهو خير سند للمدرس الناطق وهو سلاحه في معركة مواجهة الجهل والتخلف وهو دليل صدقه، فأكذب الناس من يُدرس دونه، لكن هذا الكتاب الذي هو بهذه الأهمية تعتريه شوائب منها المرتبط بندرته أو كثرة تقلب محتواه أو ضعف مقاومته للبيئة والظروف، ولكل من هذه الأمور أسبابها التي ينبغي أن تعالج منفصلة عن الأخرى، ومن ذلك:
- التغيير الدائم: لقد تضرر الكتاب المدرسي كثيرا من كثرة تقلب المحتوى تبعا للتجاذبات وتغذية للصراعات بعيدا عن التحيين المحمود الذي تمليه الضرورة ويفرضه تطور العلوم وتغيير منهج الحياة.
- قلة الكميات: عدم وجود الكميات الكافية لتغطية الحاجة من الكتاب المدرسي ولّد سخطا عند الأهالي والتلاميذ وإن كانت الحقيقة التي ينبغي أن لا تغيب عن الجميع هي ضعف وحدة الإنتاج بالمطبعة المدرسية في المعهد التربوي التي لا تتعدى طاقتها حدود ثلث المطلوب من الكتب وطنيا فقط، وهي حقيقة ينبغي أن تتغير نحو الأفضل، فتقادم الطابعات وضعف الأجهزة أدى إلى هذه الحالة، يُضاف إليه عدم اعتماد لجنة التأليف بشكل رسمي مقنن يضمن لها زيادة الفاعلية، وهو أمرساهم في قيام مشهد الترنح والعجز هذا.
- ضعف مقاومة الكتاب المدرسي: نظرا للحالة البرزخية التي تعيشها المناهج التربوية من مراحل تجريب يُعاجلها دوما تغيير في هياكل وشكل الوزارات وما يتعلق بها من ماهية وطبيعة الإدارات، تظل هذه الكتب في رحلة سعي بين التجريب والترفيع والحذف والخسف والخطف وهي أمور تعيق أكثر مما تقدم، وتجعل المادة الورقية والصور والألوان هي الأخرى تجريبية.
إلى هذه المحاور الثلاث المعلنة وما تنضوي عليه من نقاط أشرنا إلى بعضها هناك نقاط عامة ننثرها بعدها تباعا علَّ تنفع أوعسى ومنها:
- ظاهرة الاكتظاظ: وهي ظاهرة سلبية لا بد من القضاء عليها من أجل تعليم جاد وجيد.
- البنية العمرانية: أو البنية التحتية المدرسية؛ هناك جهود بناء و تشييد ملحوظة لكن الحاجة أكبر وبالتالي مضاعفة الجهود أولى والتركيز على جيوب الجهل والفقر أدعى.
- القضاء على المدارس الوهمية: وهي تلك التي لا تتوفر على العدد الكافي من التلاميذ، فَتُحدِثُ بوجودها خللا في الخريطة المدرسية وحاجة دائمة في الأشخاص.
- تشجيع المدرسين: من خلال زيادة الأجور وتنظيم ورفع العلاوات؛ إذ الأمر ضرورة ملازمة للنهوض بالتعليم وضمان استمرار جودته.
- تطبيق القوانين بعدالة تضمن مكافأة الجاد ومعاقبة المقصر، وتكريم المنتظم ومحاسبة المختفي.
- رابطات أباء التلاميذ: الشريك الذي ينبغي أن يكون نشطا وعلى مستوى المساهمة الفعالة وعلى هذا يجب العمل مستقبلا.
- ضبط تحويلات المدرسين بمعايير تضمن التشجيع والتوازن خدمة للمنظومة التربوية؛ بمراعاة جودة العطاء أو اعتبارا للمِ الشمل أو التفاعل مع الظرفية الصحية بعيدا عن المحسوبية والزبونية التي طبعت حركة المدرسين في السنوات الماضية.
- الزي المدرسي: ينبغي أن يتوفر قبل افتتاح العام الدراسي المقبل وهو غاية مهمة ووسيلة مساعدة على التركيز والتحصيل العلمي في آن.
- الكفالات المدرسية: تعد عنصر تشجيع مهم لكنها تُرافَقُ غالبا بتلاعب كبير في أعداد التلاميذ وإحداث فوضى قهرية لإذعان مديري المدارس وتكبيلهم بإتاوات تفسد ولا تصلح، وبالتالي تخرج هذه الوسيلة من دائرة الضوء إلى نفق مظلم وتسيء أكثر ولا تحقق نتيجة.
ويمكن الغوص أكثر في مشاكل المنظومة التربوية بشكل عام والوقوف على بعض الإسهامات التربوية التي دأبنا على تقديمها منذ مطلع العقد الماضي من خلال الإطلاع على كتاب: شذرات حول التعليم الموريتاني، الموجود على الرابط التالي:
https://drive.google.com/file/d/13yGTQtuoKecGfyZ75jV2TVoNpNbcVeBP/view