الفساد الرشيق / باب أحمد محمد القصري

من خلال متابعتي لقضايا وملفات الفساد في أكثر من بلد عربي، رصدت مجموعة من الأدوات يمكن اعتبارها مؤشرات تستدعي التحقيق، تتسم غالبا بالتخفي والمراوغة واتباع الأساليب الرشيقة، مما جعل تتبع بعض هذه المؤشرات يحتاج خبرة وطول نفس، وأهم هذه الأدوات:
القرارات الموجهة بالمصالح الشخصية: حيث يتم اتخاذ قرارات تنموية واقتصادية سليمة في ظاهرها، لكنها تنعكس بشكل مباشر على متخذي هذه القرارات، وأمثلتها كثيرة جدا، بل إنها الأصل للأسف في كثير من الأحيان، فاختيار موقع المطار الجديد  والجامعة ومستشفى القلب وقصر المؤتمرات، وجميع الوزارات والهيئات الحكومية، كلها تؤسس لهذا المبدأ، حيث تتضاعف أهمية نواكشوط الغنية، مقابل تهميش بقية المقاطعات، فيزيد الغني غنى والفقير فقرا، والمتابع للسوق العقاري مثلا يجد أن أسعار الأراضي في بعض المناطق الغنية تضاعفت خلال العقد الأخير أربعة أضعاف، بينما تراجعت الأسعار في المقاطعات الشعبية بنسبة 20 % إلى 50%، والأصل أن يتم اتخاذ القرارات بما يضمن التوازن بين المناطق والقطاعات والأجيال.
المتاجرة بالاعتماد على معلومات خاصة: وهذه من أخطر المؤشرات وأعمقها أثرا وتعارضا مع مقتضيات الحكم الرشيد وتساوي الفرص، ومن أمثلتها أن تكون لدى المسؤول معلومات عن قرب تعبيد طريق، أو تخطيط منطقة معينة، فيلجأ لشراء قطعها الأرضية، أو يوجه بعض قراباته أو أذرعه التجارية لذلك.
تقنين وتنظيم الفساد: من أخطر أنواع الفساد ذاك الذي يتحول من مجرد حالة معزولة إلى قانون أو نظام ملزم، ومن آخر ما اطلعت عليه من ذلك: خلق كثير من العوائق القانونية والإجرائية لملاك الأراضي في نواكشوط الغنية (المداخلات مثلا) لأجل إعطاء فرصة تنافسية أكبر لصالح المخططات العقارية الممنوحة في السنوات الأخيرة لرجال الأعمال المقربين من رأس الهرم، ومنها أيضا: ظاهرة البنوك (الدكاكين)، حيث يحصل رجال الأعمال على تراخيص لإنشاء بنوك دون كفاية في رأس المال، لأخذ نصيب من كعكة العملة الصعبة في البنك المركزي، والحصول على السيولة من المواطنين، ليستولي عليها ملاك البنك ومؤسساتهم.
قرارات نزع الملكية: حيث توظف هذه القرارات - التي هي في الأصل للصالح العام - في منح تعويضات ومزايا مالية مبالغ فيها لأطراف بعينها، دون أن تكون ثمة ضرورة تستدعي نزع الملكية أحيانا.
استغلال موازنات الطوارئ و بدلات السفر والتمثيل والبعثات الدبلموسية وبنود السحب الخاصة للإثراء غير المشروع، نظرا لضعف الرقابة ودواعي الاستعجال أحيانا في مثل هذه الحسابات.
فوترة الخدمات: بما أن "نفخ فواتير المشتريات" من المؤشرات القديمة والشائعة للفساد، ونظرا لسهولة اكتشافه فقد لجأ كثير من المجرمين إلى بدائل أخرى، أهمها توقيع عقود خدمات استشارية أو خدمات مساندة، قد لا تكون الحاجة إليها أو لبعضها ماسة، ويصعب تحديد قيمتها أو تلمس آثارها، وذلك لتغطية عمليات النهب المنظم للمخصصات المالية.
الفساد التبادلي أو الشبكي: ويتم في هذه الحالة التنسيق بين قطاعين أو أكثر للتغطية على عمليات أو قرارات فساد، ومن أمثلته الشائعة: وظف لي 10 أقارب في وزارتك أوظف لك نفس العدد في وزارتي!.. ولن يكون بمقدور أحد حينها أن يدعي وجود استغلال للمنصب.
التراخيص والسلاسل الوسيطة: رغم سهولة كشف هذه الطريقة (خاصة إذا كانت التراخيص جديدة) فإنها شائعة جدا، ويتم تمريرها كثيرا بدواعي الحاجة والضرورة، وفيها يلجأ المجرمون لترخيص شركات وهمية، بل سلسلة من التراخيص وشهادات التمثيل التي تحجب المستفيد الحقيقي، وتبقيه بعيدا عن الأضواء ليكون في مأمن من المساءلة.
الإخلال بإجراءات منح العطاءات والصفقات وتجاوز الصلاحيات في ذلك، أو التفريط في مبدأ تعارض المصالح، وكلها مؤشرات شائعة جدا ومعروفة وسهلة التتبع.
تزوير التقارير والبيانات والمؤشرات المالية وغياب الشفافية في القطاعين العام والخاص، حيث يكسب المسؤولون من وراء هذا التزوير مكافآت ومزايا مالية وترقيات وتعيينات لا يستحقونها، ويؤدي تراكم هذا التضليل لأزمات عميقة واختلالات بنيوية في الاقتصاد، وقد تؤدي إلى حالة من الشلل أو الانهيار، وكلنا يذكر فقاعة الشركات العالمية، التي كانت تنشر بيانات مالية مزورة، مكنتها من اقتراض المليارات، لكنها وقعت أخيرا في شر أعمالها.
التسرب الوظيفي: من السهل جدا حصر آلاف الموظفين الذين يتقاضون رواتب من خزينة الدولة دون مقابل، وتدقيق ملفاتهم لفرز حالات الفساد فيها، إذ أن التسيب والتسرب الوظيفي – الكلي أو الجزئي – يبدد موارد هائلة، ويعتبر حالات فساد مكتملة الأركان، مما يؤشر إلى أن الفساد عندنا أضحى مجتمعيا يتمدد في كل الأ رجاء، فمنه ترك الموظف عمله دون وجه حق وسفره للعمل أو للدراسة في الخارج مع استمرار راتبه الشهري، ومنه وضع جداول تتيح للموظفين عمل يوم أو يومين في الأسبوع، وتخلف الموظف عن الالتحاق بعمله في الداخل، وتزوير التقارير الطبية التي تسمح للموظفين بالقعود مع الخوالف، ولو كانت الإدارة تمتلك قليلا من الحزم والضبط المؤسسي لما حصل مثل هذا الهدر في الموارد.
 رحم الله ‏ابن خلدون يوم قول: "من علامات سقوط الدول، عمل الحكام والأمراء بالتجارة والبيع والشراء، وانشغالهم بجمع الاموال"، وحم ابن محيريز  يوم ذهب إلى السوق رجاء أن يشتري ولا يعرف، فعرفه شخص، فقال لصاحب الدكان: هذا ابن محيريز، فانظر كيف تبيعه، خفض له، فغضب ابن محيريز، وقال: يا أخي إنما أشتري بمالي لا بديني!..، وغضب وقام وما اشترى منه.
ورحم الله حال مجتمعنا الذي أضحى مطبعا مع الفساد والمفسدين، فصدق فيه قول الرافعي رحمه الله: ‏"حين يفسد الناس لا يكون الاعتبار فيهم إلا بالمال، إذ تنزل قيمتهم الإنسانية ويبقى المال – وحده - هو الصالح الذي لا تتغير قيمته".

5. يوليو 2020 - 13:50

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا