تعامل الإسلاميون منذ سنوات بحكمة ومسؤولية مع مختلف الاستفزازات الصبيانية التي يقوم بها النظام الحالي، ليس جبنا ولا خوفا ولا طمعا، فقد خبروا السجون والمعتقلات والمنافي، فما ضعفوا وما وهنوا وما استكانوا.. كأنما عناهم الشاعر المخضرم سُحيم ابن وَثيل بقوله:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا *** متى أضعِ العمامة تعرفوني
وإن مكاننا من حِميرِيًّ *** مكانُ الليث من وسَط العرين
وقد ضويقوا وعذبوا فما حملوا حقدا ولا سعوا لثأر أو انتقام، يرددون مع المقنع الكندي قوله:
وإن قطعوا مني الأواصر ضَلةً *** وصلت لهم مني المحبة والودا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم *** وليس كريم القوم من يحمل الحقدا
بل صفحوا وعفوا وتجاوزوا وقالوا لا تثريب عليكم، بلسان الحال قبل المقال، {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ، قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
وذكر الطبري: في تفسير قوله تعالى "تالله لقد آثرك الله علينا" ، أي: (تالله لقد فضلك الله علينا وآثرك بالعلم والحلم والفضل)
والتثريب التعيير والتوبيخ، وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم مخاطبا أهل مكة بعد أن دخلها منتصرا فاتحا: (وأنا أقول كما قال أخي يوسف "لا تثريب عليكم اليوم" فقال عمر رضي الله عنه: ففضت عرقا من الحياء من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أني قد كنت قلت لهم حين دخلنا مكة: اليوم ننتقم منكم ونفعل، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال استحييت من قولي.
ولقد ضرب الإسلاميون في ذلك الخلق النماذج المشرفة فهذا الشيخ العلامة محمد الحسن ولد الددو يعفو ويصفح عن الرئيس معاوية وجلاديه، وهذا الرئيس محمد جميل منصور يُسأل في مقابلة إعلامية عن الرئيس معاوية فيتعفف عن النيل منه أو ذكره بسوء، ويقول: قلنا فيه وفي حكمه ونظامه الحق أيام كان رئيسا للبلاد، أما الآن فلا أتحدث عنه.
بل أبعد من ذلك، فقد كان الإسلاميون أكثر الناس انفتاحا واستعدادا للتعاطي مع من ظلمهم وأساء إليهم، فعلوا كل ذلك سموا وعلوَ أنفُس، فعلوه تغليبا لمصلحة الوطن، فعلوه لأنهم لم يرضوا لأنفسهم أن يفتحوا محاكم تفتيش على نيات الناس وقلوبهم، أو يحولوا بينهم وبين إرادة الإصلاح أو فعل الخير.
يا هؤلاء! لقد نضج الإسلاميون من النضج بحيث ما عاد بالإمكان أن يجروا لمعارك الآخرين، التي يحددون سلفا ساحتها وميدانها وتوقيتها، ولا أن يستخدموا وقودا يُسرج به الآخرون دروبهم المظلمة، أو يُفصلوا به خرائط مصالحهم، التي جبنوا أن يجدوا لها ما يناسب من طرق ومسوغات، فأخذوا يكيدون ويمكرون، يتربصون الكُوى والنوافذ، ويرقبون الظلام!!
يا هؤلاء!! أحرقوا مراكبكم، وانفثوا حقدكم، واكشفوا أوراقكم، وأرخوا العنان لجشعكم.. فنحن ها هنا ننتظركم، بصبر وحلم وأناة وثقة، ستتقطع دونها نفوسكم المهزوزة ضعفا، وحبائل شياطينكم الواهية الواهنة، فحال أحدنا هو ما وصفه شاعر وفارس بني حمدان:
صبور ولو لم تبق مني بقية *** قؤول ولو أن السيوف جواب
وقور وأحداث الزمان تنوشني *** وللموت حولي جيئة وذهاب
يا هؤلاء! من الناس من يراد له المجد والعلو، وتتهيأ له أسبابه ودروبه ومقدماته، حتى لكأنها قاب قوسين أو أدنى، ولكنه يأبى لنفسه إلا الضعة والاستفال والهوان، تتهيأ له مراتب الخيرين والمصلحين، فيأبى إلا جوقة المنحطين الرعاع.
غبي العين عن طلب المعالي *** وفي السوءات شيطان مريد
ولقد رأيناكم تتبعون سنن سوءات من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، وحتى "جحر ضب" منع الخير ومضايقة العلم وأهله، ها أنتم تدخلونه كما دخلوه، فأغلقتم جمعية المستقبل للدعوة والثقافة والتعليم، عنوان الدعوية الوسطية والإرشاد بالحكمة والحسنى، والوقوف في وجه التطرف والانحراف، وأغلقتم مركز تكوين العلماء وجامعة الإمام عبد الله ابن ياسين، مركزي إشعاع وعلم، يجددان عهد المرابطين ويحفظان لبلاد شنقيط سفارة العلم وحمل ميراث النبوة، والآن تختمون سني حكمكم العجاف، بإغلاق جمعية الخير للتنمية، وفرع الندوة العالمية للشباب الإسلامي، منعا للخير، ووقوفا في وجه فاعليه، فبئست الخاتمة والنهاية!
يا هؤلاء! صحيح، يأسف أبناء المشروع الإسلامي ويحزنون على فوت باب من أبواب الخير في خدمة هذا الشعب المسكين المغلوب على أمره، الذي تحرمونه خيراته نهبا وسفها، وتمنعون الآخرين ذلك، ولكنها أبواب كثيرة مشرعة تستعصي على خبثكم وسوء طويتكم، ففي النفوس التواقة للخير، وخدمة الناس ومواساتهم غُنية وكفاية، وكان الله وبقي.. وسنبقى نحمل الخير للناس تعليما وتوجيها وخدمة للأرامل واليتامى والمستضعفين... فإذا كان حالكم هو منع الخير وظلم الناس والمستضعفين، فإننا نحن نحمل الخير ونحرص عليه ونحزن حقا على فواته.
تمر الليالي ليس للنفع موضع *** لدي ولا للمعتفين جناب
ولا شد لي سرج على ظهر سابح *** ولا ضربت لي في العراء قباب
ستذكر أيامي "نمير" و"عامر" *** و"كعب" على علاتها و"كلاب"
أنا الجار لا زادي بطيء عليهم *** ولا دون مالي في الحوادث باب
ولا أعرف العوراء منهم أصيبها *** ولا عورتي للطالبين تصاب
فأي الفريقين أحق بالطمأنينة والثقة بتوفيق الله وعونه وتأييده؟ وأي الفريقين أرجى لأن تنتشر دعوته ويبقى أثره؟ هاهو القرآن الكريم يجيبنا بأن ما ينفع الناس من صدقة وبر وصلة و إحسان باق في الأرض، وأما الزبد من فساد وظلم، وإفساد في الأرض فيذهب جفاء لا أصل له ولا قرار.
{كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}