تمر البلاد اليوم بمرحلة مهمة ومحطة أساسية من محطات التحول السياسي، ومهما يكن، فإن تداولا ديمقراطيا سلميا على السلطة قد حصل، قد نختلف في تقييم المخرج وحجم المأمول، لكننا نتفق جميعا أن البلاد قد تجنبت مأزقا ونفقا سياسيا مظلما، كانت بوادره قاب قوسين أو أدنى، لن ندخل في تفاصيل من له الفضل في ذلك، هل هو النظام أم المعارضة أم هما معا، المهم عندي هو المحصلة والنتيجة النهائية، صحيح، واكبتها منغصات كثيرة وتتهددها مخاطر مستمرة، لكنها لم تكن أسوأ السيناريوهات ولا أخطرها..
والبلد الآن إزاء هذا الوضع المريح المفرح ،المقلق المخيف في آن، يحتاج لجهود الجميع ،لحكمة وتعقل الجميع، واستشعار المسؤولية من الجميع، نحتاج وعيا بالمخاطر والتحديات و إدراكا جيدا لواجبنا ومسؤوليتنا تجاه هذا الواقع، والأمر هنا في رأيي يتعلق بمصلحة الوطن بمؤسساته واستقراره وتنميته وتعزيز ديمقراطيته، وحينها يجب أن تتأخر الحسابات الحزبية والصراعات القطبية.. صحيح أن المشاريع السياسية الجادة تسعى في أهدافها وبرامجها لخدمة الوطن وتوعية الشعب، ولكن ليس بالضرورة أن تتقاطع دائما مصالح التشكيلات السياسية الخاصة مع مصلحة الوطن، وحين التعارض أو الترتيب، يجب أن تكون مصلحة الوطن أولى ومقدمة، قد تكون هذه القاعدة بديهية مرعية عند الكثيرين، ولكنها قد تتأخر أو تغيب في شيطان تفاصيل المواقف والتوجهات السياسية، والعاقل تكفيه الإشارة والغافل الناسي يتنبه بالتذكير.. وهو واقع يستدعي من أصحاب الرأي القيام بواجب النصح والنقد، وهو ما يحاوله هذا المقال من خلال رسائل ثلاث:
الرسالة الأولى: لنبحث عن المستفيد
القناعة عندي راسخة أن طغمة فاسدة وفاشلة تخلقت في بعض زوائد النظام السرطانية العفنة، تتحسس منذ فترة رقابها وجيوب بطونها خوفا من بعض هواء نقي قد يتنفسه هذا الوطن.. إنها قلقة فزعة مرعوبة يائسة متخبطة، تتعلق بكل وهم أو زيف، من حبال كيد أو نيران فرقة، أو فتنة، أو وقيعة، تحسبها طريق رجعة أو خط عودة وبقاء.. وإن "كبيرهم" ليصغي مليا، ويرخي لهم ويغضي، ويوحي لهم من طرف خفي لعل بعض أحابيلهم تأتي بالفرج والخلاص المأمون العواقب، أو لعلها تأتي ببعض الضمانة والطمأنينة على مستقبل مهزوز خائر جل ثماره ونفائسه هي "جبال من رماد" تطاول السماء، قد شيدت على شفا جرف هار، تتهددها بالزوال كل نسمة هواء وكل قطرة غيث، فكيف بخريف متذبذب لم تستقر بعد أرصاده على حال، قد يحمل رياحا هوجا أو سيولا دفاقة، تقتلع كل غث وتُطوِف بكل غثاء وسراب، حتى إذا جاءه أصحابه لم يجدوه شيئا، ووجدوا الحساب والمساءلة، لأن كل ما بنوا وشادوا وجمعوا من عرق هذا الشعب ودمائه وقوت أبنائه، أوضح من أن يخفى و أسرع في تحصيله من أن يبرر، فقد رأينا العالة رعاء الشاء، في سنوات قليلة يتطاولون في البنيان، ويخوضون في المشاريع والصفقات ذات الأرقام الفلكية، حيث تُفني الرجال أعمارها ، تكد، تحصل، تتغرب وتشقى، لتأتي بنصفه وثلثه أو حتى عشره!!
فهؤلاء هم المستفيدون حقا من الوضع الحالي، وهم المتوجسون ريبة من كل جديد، فبعد أن فشلوا في تكريس ظرف استثنائي يكون لصالحهم بالكلية، يسعون ـ الآن ـ لخلق بعض الظروف التأزيمية المواتية لهم، ليتحكموا أكثر، ويستفيدوا أكثر، ويأمنوا أكثر، وهم في ريبة من "القادم" ، رغم الصحبة والصداقة وسابق العهود، وحاليها "وللعهد عندي معناه" ، فهم يخشون أن تتهيأ ظروف لا يحتاجهم فيها، أو يحتاج ويضطر إلى غيرهم، كما اضطر أخ له من قبل، لأن في ذلك القاضية والقاصمة، ولعل ضريبة التخلص من أحد أبناء الجسم المحصِل للعديد من عناصر المنعة والقوة و التأثير، لن تكون بتلك السهولة والبداهة كحال "الغريب" الخلو إلا من إيمانه.
الرسالة الثانية: إلى المعارضة.. بعد التهنئة
إلى الحادبين الغيورين على الوطن، وبعد التهنئة المستحقة على الجهد المقدر الكبير، فرغم الظروف والصعوبات والتحديات، فقد نلتم ثقة قطاعات واسعة من الشعب الموريتاني عبرت عن تمسكها بالأمل فيكم وفي المشاريع التي تمثلون، وهو ما يحملكم المسؤولية تجاه هذه الجماهير، ولكنه يحملكم أيضا المسؤولية تجاه الوطن ككل، تجاه أغلبية الشعب التي لم تصوت لكم، حتى وإن كان ذلك وفق شروط جائرة في حقكم، لكنها قواعد وشروط أنتم قبلتموها وتحت إشراف مؤسسات رضيتم بالاحتكام لها، وهو ما يستدعي لفت انتباهكم لجملة أمور:
أن في كل تغيير تحول، وفي كل محطة جديدة مكاسب للوطن تترسخ وتبقى، تأتي دعاية واستهلاكا، وتأتي مسايرة واضطرارا، وقد تأتي رهبة وتأتي احتماءا.. فالتغتنموا الفرصة بحكمة وحنكة وعقل.. ساهموا بإيجابية وفاعلية وواقعية في خريطة مستقبل البلد، ساهموا في بنائها ووضع قواعدها وأسسها، تجاوزوا عقدة الانتخابات وجدلية الخاسر والمنتصر.. تجاوزوا سيمفونية التزوير، وحديث المظلمة وتدخل الدولة، وتأثيرها على إرادة الناخبين، واللجنة واستقلاليتها، والدستوري وانحيازه، وانظروا للمستقبل بعيون المستفيد من أخطائه المدرك لنقاط ضعفه ومكامن قوته.
علينا أن ندرك أن قدرة المعارضة لوحدها على التأثير في الكثير من جوانب الخلل في بنية منظومتنا السياسية محدودة جدا وضعيفة، لأسباب كثيرة، منها الذاتي، ومنها البنيوي المتعلق ببنية الدولة والمجتمع، وهو ما يستدعي مزيدا من الحرص على الحضور والتمثيل في مؤسسات الحكامة والرقابة، والحوار والتنسيق مع السلطة ـ ما أتيح ذلك ـ من أجل تعزيز ذلك الحضور وتوسيعه، وتطوير ترسانة قانونية معزًزَة بمؤسسات تحمي استقلالية الدولة وتكفل تكافؤ الفرص بين مختلف الفرقاء..
من التبسيط المخل أن نعتبر أن كل دعوة لتهدئة الأجواء السياسة هي دعوة للتخلي عن المعارضة والالتحاق بالسلطة، فذالك تقزيم وتحجيم لمشروع المعارضة الديمقراطية ولأدوارها ، فهي في ـ نظر هؤلاءـ إما أن تكون صدامية حدية لا تعترف بالواقع ولا تتعامل معه، أو أن تتخلي كليا عن مشروع المعارضة وتلتحق بالسلطة، فلا هذا ولا ذاك، بل هناك مساحات مؤثرة من الفعل المعارض الجاد المسؤول المؤثر المُراكم والمتدرج، وأوقات الاستقطاب والحدية والصراع استثناء و ضرورة تقدر بقدرها، وتحدد بمداها، فلا الجسم المعارض يستطيع إدامتها، ولا الوطن ومصالحه يتحمل استمرارها.
الرسالة الثالثة : إلى الرئيس المنتخب.. قبل التهنئة
إلى الرئيس المنتخب، لا أحد يستطيع أن يكابر في أن ظروف انتخابكم ليست مثل ظروف انتخاب سلفكم في 2009 ، القادم ـ حينها ـ من انقلاب تم فيه وأد تجربة المسار الديمقراطي المدني، ولا في إعادة انتخابه في 2014 في انتخابات أحادية قاطعتها أبرز قوى المعارضة وطعنت في شرعيتها، بل هي أحسن فعلا، والفرصة أمامكم أكبر، فأنتم تنتخبون لرئاسة البلد في انتخابات شارك فيها الجميع، وتنافست فيها مختلف البرامج بمسؤولية واحترام، ورغم ما شابها من خروقات وتجاوزات، إلا أنها ـ في المحصلة ـ جاءت مقبولة، وإن لم تكن مرضية، وهو ما تستحقون عليه التهنئة فعلا، ولكن تهنئتكم الحقة ستكون يوم تدركون حجم المسؤولية أمامكم في تحقيق أجواء توافق سياسي يخرج البلد من أزمته السياسية المتطاولة، والتي لا شك أثرت سلبا في تنميته واقتصاده وفرص تحقيق التعايش بين مكوناته.. نحن لا نريدكم رئيسا معارضا، لن نطالبكم بالقطيعة ولا بإعلان الحرب على نظام سلفكم، فتلك بساطة منا وخفة ونحن ندرك أنكم ركن فاعل في ذلك النظام، نحن فقط ندعوكم إلى النظر في الأخطاء نظرة تصحيح واعتبار، ولعلكم أدركتم وأنتم خارجون توا من حملة انتخابية، حجم ثقل التركة السلبية التي حملكم سلفكم وحجم الإشكالات التي ورثكم، ولعل قراءة موضوعية للنتائج تخبركم بذلك، فقرابة نصف الشعب الموريتاني رغم الضغوط والإغراءات ورغم التزوير أعلنت صراحة أنها ضد ذلك المشروع وترفض ذلك النهج، ورسائل المدن وعواصم الولايات أوضح وأشد تعبيرا عن ذلك الرفض.
إذا هو التصحيح والتدارك السريع، هو العمل الجاد على تكريس توافق وطني واسع، أبدى كل المترشحين استعدادهم للإسهام فيه بفاعلية إذا رأوا جدية ومسؤولية والتزاما.
ختاما..
تلك رؤيتي لواقع البلد والتحديات التي تواجهه والفرص الكبيرة التي أمامه، وتلك نصيحتي لأبنائه الغيورين على مصلحته، المضحين في سبيلها، وهذا رأيي أبسطه لكم لا أبتغي جزاءا ولا شكورا، قد يكون مثاليا أو حالما أو محلقا، أدرك ذلك، ولكنه منهج القرآن وسبيل الأنبياء والمصلحين في النصح والبيان والحجة والإعذار قبل الحكم والقرار والموقف "وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا، قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون" ، وهي ضريبة الديمقراطية: أن نعطي لكل جديد الحق والفرصة في أن يثبت أهليته وأحقيته وجدارته.