عندما أذن المؤذن معلنا بداية السدس الأخير من الليل أيقظني والدي، رحمه الله ، و رافقني إلى المحضرة. وجدت أمامي ،كما هو معتاد ، بعض أطفال الحي من مختلف الأعمار و المستويات الدراسية المحضرية وقد أوقدوا نارا يجتمعون حولها، تزودهم بالإنارة الضرورية لقراءة ألواحهم .
لقد تجاوزت منذ فترة مرحلة التهجي و بدأت كتابة بعض سور القرآن و حفظها. يكتب لي شيخ المحضرة ،رحمه الله، في لوح مستخدما حبرا مصنوعا من مزيج من الصمغ العربي و الفحم الحطبي و الماء.
بقيت في المحضرة كعادتي حتى أشرقت الشمس، فعدت مسرعا إلى المنزل (خيمتنا ) بحثا عن فطور غير متوفر دائما. ففي الحي المتنقل لا توجد مخبزة و لا دكاكين. صادفني الحظ في ذلك اليوم فوجدت رغيفا ( أصبوح)، مزجته باللبن و تناولته. كان بيع المواد الغذائية في ذلك الزمان يجلب العار و لا يتجرأ أصحاب المروءة - و ما أكثرهم- على امتهان التجارة في الحي.
ذهبت عند الساعة السابعة و أربعين دقيقة إلى المدرسة لا أحمل معي أي أداة. فجميع الأدوات من كتب و دفاتر و أقلام يحتفظ بها المعلم ، يوزعها علينا أثناء الأنشطة التعلمية و يحفظها عند نهاية الدوام في صناديق خاصة بها.
لا مجال للواجبات المنزلية، فالمعلم يشرف على جميع الأنشطة التعلمية من حفظ للدروس و إنجاز للتمارين و ينوب عن الأسر في مواكبة دراستنا. فنحن جيل المدرسة الأول و لا أحد في حينا يعرف اللغة الفرنسية.
عند الساعة السابعة و خمس و أربعين دقيقة، أعطى المدير ، و هو أيضا معلم اللغة الفرنسية، إشارة إذن الاقتراب من المدرسة و ذلك بواسطة صفارة زودته السلطات بها مع جهاز راديو، عند اكتتابه و تحويله إلى المدرسة. لقد اكتتب هذا المعلم، أطال الله في عمره و حفظه من كل سوء ، بعد حصوله على شهادة ختم الدروس الابتدائية و لم يستفد من أي تكوين أولي ، لكن مثابرته و إخلاصه و حبه لمهنته جعله يكتسب بسرعة كفاءات مهنية تجاوز مستواها مستوى كفاءات معظم أولئك الذين حصلوا على تكوين مهني متخصص داخل المدارس المهنية .
بعد إطلاق الصفارة ، اصطففنا أمام الخيمة في هدوء و نظام على أساس مبدإ الصغير في الأمام و الكبير في الخلف. بعد الترتيبات المتعلقة بتنظيم الصفوف، دخلنا بهدوء و سكينة . كل تلميذ يجلس في مكان ثابت خاص به على حصيرة من ‘’أزران’’ على أساس نفس المبدإ المستخدم في تنظيم الصفوف عند الدخول.
جلست في مكاني في الصف الأول و نظرت أمامي مشبكا ساعدي.
دخل المعلم و بدا بإعطاء بعض الأوامر الروتينية : قفوا، اجلسوا،انظروا أمامكم، شبكوا السواعد و قد عرفت فيما بعد أن الغرض من هذه الأوامر هو بعث النشاط في روح كل تلميذ و تهيئة جميع التلاميذ للدرس.
بعد متابعة تنفيذ الأوامر، كتب المعلم تاريخ اليوم على السبورة ثم قرأه و أمر بعض التلاميذ بقراءته.
بعد ذلك، مباشرة، بدأت الحصة الأولى و كانت درسا في الأخلاق مدته سبع دقائق تبدأ به الدروس كل يوم.. تتناول هذه الحصص بعض القيم الأساسية كاحترام الكبير و الصدق و الأمانة و المواظبة على الدراسة و احترام الوقت و حب الوطن و احترام الآخر...
بعد نهاية حصة الأخلاق، بدأ المعلم في توزيع كتب القراءة إيذانا ببدء حصتها التي تدوم حوالي ثلاثين دقيقة. نستخدم في القراءة كتابا من سلسلة مامدو و بنتا Syllabaire )) و هو كتاب معد للأطفال الأفارقة يعتمد الطريقة الجزئية في القراءة Méthode syllabique)) . تمكنا في مدة قصيرة ، من خلال متابعة تسلسل صفحات هذا الكتاب ، من القراءة رغم أننا في أغلب الأحيان لا نفهم كل ما نقرؤه . كان المعلم يركز كثيرا على التكرار الفردي و الجزئي و الجماعي.
كانت حصة القراءة مناسبة لتمرير بعض الصيغ الضرورية للتحدث باللغة الفرنسية التي لا يسمح بالتحدث بغيرها أثناء حصص الفرنسية. و كان المعلم يستخدم أداة ‘’رمزا’’symbole’’ ’’ و هي عبارة عن عود صغير من الخشب يسلم لكل من يتكلم بغير اللغة الفرنسية و يعاقب في نهاية الدوام آخر من وجد لديه هذا العود عقابا جسديا. و كان من يتسلمه، ينقطع انتباهه نهائيا عن الدرس لكونه ينشغل تماما في مراقبة زملائه لعله يجد الفرصة للتخلص من هذه الأداة المخيفة و يسلمها لآخر.
لقد لعب هذا الأسلوب العقابي ، الذي يحمل في طياته ظلما غير متعمد، دورا كبيرا في إجبارنا على التحدث باللغة الفرنسية، حيث مكننا منذ الأيام الأولى للدراسة، و في غياب استخدام اللغة خارج المدرسة، من خلق فضاء تحت هذه الخيمة أتاح لنا فرصة التعبير بدون خجل بهذه اللغة. و كان معلمنا نعم الرفيق يواكبنا بالتصحيح و التكرار و التشجيع.
لقد ورثت المدرسة الجمهورية الأولى هذه الأداة le symbole عن مدرسة المستعمر و اختفى استخدامها تدريجيا بعد إصدار النصوص التشريعية المحرمة للعقاب الجسدي و خاصة المقرر الشهير المعروف بالمقرر701.
عد نهاية حصة القراءة، بدا درس الحساب الذي يستخدم فيه المعلم الوسائل المتاحة من عيدان و حجارة
أثناء الحصة يتأكد المعلم من استخدام كل تلميذ لوسائل العد و احترام التعليمات المتعلقة بزيادة عدد أو نقصه حسب الوضعية الحسابية المستهدفة وفي آخر المطاف يجسد العمليات على السبورة ثم يقرؤها و يأمر بعض التلاميذ بقراءتها . تعاد قراءة كل عملية عدة مرات و كانت طريقة التكرار معتمدة في جميع الحصص، حتى أن معظم التلاميذ يتمكنون من حفظ ما يكتب على السبورة قبل التجاوز إلى حصة أخرى.
قبل نهاية الحصة، يوزع المعلم الدفاتر و الأقلام على التلاميذ و يأمرهم بكتابة التاريخ و العمليات و يحرص على التثبت من صحة ما يكتبه كل واحد منهم.
لم تكن الأقلام ذات الحبر الجاف Bic)) المتوفرة اليوم موجودة آنذاك و إنما توضع أمام كل واحد منا محبرة بها حبر سائل يحضره المعلم و بحوزتنا أقلام تغمس في الحبر و يكتب بها. و لإزالة قطرات الحبر التي قد تسيل من القلم، نستخدم ‘’نشافة’’ buvard))، ورقة تمتص الحبر بدون أن يبقى له أي أثر ،معدة أصلا لهذا الغرض. فأثر هذه القطرات يشوه الكتابة و يدنس الورق و نحن نسهر على نظافة و جمال دفاترنا.
لقد اكتمل الجزء الأول من الفترة الصباحية و حان وقت الاستراحة. خرجنا بهدوء من الخيمة في انتظار أن تعلن الصفارة مجددا لحظة استئناف الدراسة. إنها فرصة للعودة مرة أخرى إلى المنزل بالنسبة للبعض و مناسبة يلعب فيها آخرون بعض الألعاب التقليدية.
انتهت الاستراحة فاصطففنا من جديد أمام الخيمة قبل أن ندخل بنظام و انضباط.
بعد التأكد من جلوس التلاميذ، كل في مكانه، و إصغائهم، بدأت دروس العلوم الطبيعية و التاريخ و الجغرافيا اتباعا . استخدم المعلم بعض وسائل الإيضاح و دعمها برسوم رسمها على السبورة لينتهي كل درس بملخص قصير يحفظه التلامذ من خلال التكرار.
قبل نهاية حصة الدوام الصباحية التي تنتهي على تمام الساعة الثانية عشرة زوالا، اختتمت الحصص بنشيد قرأه المعلم عدة مرات و أعدناه بعده تمهيدا لحفظه في الحصة المقبلة. كانت الأناشيد و المحفوظات منتقاة من إنتاج شعراء بارزين، أمثال Jean de La Fontaine و Victor Hugo وغيرهما.
و تمكن هذه الأناشيد من إثراء المعجم اللغوي كما تساهم في كسر الروتين و إزالة الملل و التعب المرتبطين بالدروس ذات الطابع الجاد.
عند نهاية وقت الدوام الصباحي خرجنا بهدوء و انضباط و غادرت المدرسة متجها إلى المحضرة لقراءة ما كتبه لي في غيابي شيخ المحضرة . واصلت هذه القراءة حتى الساعة الواحدة و النصف زوالا حيث سمح لي الشيخ بالذهاب إلى المنزل.
ذهبت الى المنزل أملا في أن أجد الغداء جاهزا غير أنه تأخر في هذا اليوم بسبب نقص في الماء و تأخر من ذهبوا لجلبها من البئر البعيدة عن الحي. لكن أسرتي تحتفظ دائما بمواد غذائية يمكن تحضيرها بسرعة في هذا النوع من الظروف. كان لي ما أردته و عدت من جديد إلى المحضرة و بقيت فيها حتى الساعة الثانية و خمسين دقيقة ثم توجهت بعد ذلك إلى المدرسة.
تبدأ الدراسة في الدوام المسائي، عند الساعة الثالثة ظهرا بنفس الطريقة التي يبدأ بها الدوام الصباحي: الصفارة، الصفوف، الدخول بنظام ثم الجلوس في الأماكن الثابتة.
بد أ معلم العربية رحم الله و جزاه عنا خيرا، و هو خريج المحاضر العريقة في المنطقة بالبسملة تأسيا بحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم : كل أمر ذي بال لا يبدأ ببسم الله فهو أبتر. و بعد ذلك انطلقت الدروس اتباعا: درس في السيرة استخدم في تقديمه أسلوب القصص المشوق ثم القراءة التي اعتمد فيها الطريقة الجزئية مع السهر على سلامة مخارج الحروف و الحرص على أن يقرأ كل تلميذ و أخيرا الأناشيد و المحفوظات. و كانت هذه الحصة الأخيرة تشد دائما انتباهنا و تثير لدينا الرغبة في حفظ المزيد من الشعر، و قد حفظنا بالفعل النشيد الوطني و بعض القطع الشعرية المتعلقة بدور العلم و برور الوالدين و حب الوطن و مكانة اللغة العربية .....
إن معلم العربية ،رحمه الله ، رغم أن هذه اللغة كانت لغة تدريس ثانوية و رغم أنه لم يحصل على أي تكوين يحضره لمهنة التدريس، استطاع بعلمه الغزير و مواظبته و مثابرته و حنانه و حبه للخير و سعيه من أجله، أن يمتلك مهارات و كفاءات تربوية و مهنية عالية ساهمت بشكل كبير في تكوين جيل صالح متشبث بموروثة الثقافي ، منفتح على ألأخر، محب للغة الضاد و قادر على استخدامها في كافة مجالات العمل.
لقد كان لنا أبا حنونا و مدرسا مخلصا و قام رحمه الله بدور كبير و فعال بغية استمرار هذه المدرسة- الخيمة- التي أسست لتكوين عدد كبير من الأطر، من أطباء و مهندسين و خبراء اقتصاديين و إداريين و أساتذة و مفتشين و معلمين ساهموا بشكل كبير في تطوير البلد و تنميته.
عند اكتمال الدروس انتهي وقت الدوام عند الساعة الخامسة، فصلينا العصر خلف المعلم.
بعد صلاة العصر توجهت من جديد إلى المحضرة و بقيت فيها حتى غروب الشمس، أكرر قراءة ما كتب لي بغية حفظه واستظهر ما سبق ثم قمت ببعض الخدمات لصالح أسرة شيخ المحضرة.
و هكذا تتكرر الأيام و الأنشطة بنفس الوتيرة.
و نظرا إلى أن أيام تعطيل الدراسة بالمحضرة تختلف عن أيام تعطيلها بالمدرسة، كانت الأيام كلها خلال السنة الدراسية، أيام تعلم و عطاء و هذا ما جعل جيل المدرسة الجمهورية الأولى يتعود على التحمل و الصبر و المثابرة.
وفق الله الجميع و حفظ موريتانيا