فرنسا واحتلال سيْگو: نهب كنوز الحاج عمر الفوتي / محمد السالك ولد إبراهيم

في لحظة تاريخية حزينة، انقشع غبار المعارك يوم 6 أبريل 1890 عن انتصار جيش المستعمر الفرنسي بقيادة العقيد لويس أرشينارد، بعد احتلال مدينة سيْگو  Ségou التي كانت آنذاك عاصمة إمبراطورية الشيخ الحاج عُمر بن سعيد تال الفوتي، حيث تمكن هذا المجاهد من إقامة دولة إسلامية عظيمة وواسعة تمتد من شرقي السنغال وغينيا إلى النيجر وتومبوكتو في مالي.

وقد ظل الحاج عُمر الفوتي يحارب أعداءه خاصة من الغزاة الفرنسيين إلى أن توفي رحمه الله سنة 1864 في ظروف غامضة.. وكان الشيخ المجاهد، قد تمكن سنوات قليلة قبل وفاته، من بسط نفوذه على مدينة سيْگو في وسط مالي، وعهد بإدارتها لابنه أحمدو (1836-1897) ، بينما تقدم هو نحو مدينة الحمد لله Hamdallaye بإقليم موبتي، التي خضعت له في 16 مارس 1862، بعد أن كانت عاصمة إمبراطورية الفولان في إقليم ماسينا. 

لكن المستعمر قرر أن ينتقم من الشيخ الحاج عُمر تال الفوتي، بطريقة وحشية غاب فيها الضمير والأخلاق.. وخالية من أي اعتبار لحقوق الإنسان، رغم مصادقة الجمعية الوطنية الفرنسية على إعلان حقوق الإنسان والمواطن سنة 1789..  فقد قام المستعمر الفرنسي بالاستيلاء  على من تم القبض عليهم من أفراد عائلة  المجاهد الكبير كغنائم حرب، وكان من بينهم بعض زوجات أحمدو نجل الشيخ الحاج عُمر تال الفوتي، وبعض بناته واثنين من أحفاده وهما عبد الله والتجاني، اللذين كانا يبلغان من العمر آنذاك 6 سنوات و10 سنوات على التوالي. كما تم نهب ثروة العائلة الإمبراطورية التي يقدر جانبها النقدي فحسب، بأكثر من ثلاثمائة ألف فرنك من الذهب، و 76 كلغ من الذهب الخالص و 157 كلغ من الفضة، إضافة إلى سيف الشيخ الحاج عُمر تال الفوتي ومصحفه اللذين يظهران في المتحف كما في الصورة، وكذا كمية كبيرة من المجوهرات من مختلف المعادن والتحف والمصنوعات الثمينة الأخرى..

أما الغنيمة الكبرى التي قررت فرنسا الاحتفاظ بها لنفسها فقد كانت "المكتبة العُمرية" التي تحتوي على مئات الكتب والمخطوطات والمراسلات.. وهكذا تم جمع المكتبة والمجوهرات في 14 حاوية وتم نقلها عبر النهر من مدينة "خاي" إلى سانت لويس بالسنغال ومن ثم إلى فرنسا.. ليتم بعد ذلك في سنة 1892 تسليم المجوهرات إلى المتحف الدائم للمستعمرات، الواقع بـ 4، شارع جان نيكوت في باريس، بينما ذهبت الكتب والمخطوطات إلى المكتبة الوطنية الفرنسية، حيث مازالت ترقد هناك في قسم المخطوطات الشرقية.. 

وتمثل مكتبة الحاج عمر تال الفوتي أو "المكتبة العُمَرية" كما تشتهر، بمحتوياتها المختلفة المتمثلة في 518 مجلداً مع فهرس لتصنيفها، كنزا معرفيا وثقافيا ثريا بما تضمه من كتب ومؤلفات ووثائق جمعها ابنه أحمدو (1836-1897). وقد كتبت جميع محتويات المكتبة العمرية باللغة العربية بشكل رئيسي، مع بعض الاستثناءات النادرة، التي كتبت بالفولفدي (وهي اللغة الفولانية بخط عربي) أو بلهجات عربية أخرى، وقليل منها كُتب بالفرنسية.

وتوجد في هذه المجموعة الأعمال التي كتبها المجاهد الحاج عمر الفوتي نفسه، بما في ذلك كتابه "حزب الرحيم على نحُور حزب الرجيم"، وقد ألفه أثناء رِحلته إلى الحجِّ، و يذبُّ فيه عن الطريقة التجانية دفاعا مستميتا، وكتاب "تذكرة المسترشدين وفلاح الطالبين"، وكتاب "المقاصد السُّنية"، وكتاب "بيان ما وقَع" وهو عبارة عن رسائله في الجهاد ضد الغزاة الفرنسيين ومن تحالف معهم، و"ديوان سفينة السعادة لأهل الضعف والنجادة"، ويمدح فيه النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وكتاب "النُّصح المبين"، وكتاب "هِداية المذنبين إلى كيفية الخلاص من حقوق الله والعباد أجمعين" ، وكتاب "تذكرة الغافلين على قبح اختلاف المؤمنين"، ونظم أسماء أولياء الله المذكورين في طبقات الشّعراني، و "لامية الطلاب"، و "دعاء الاستسقاء"..

وتضم المكتبة العُمَرية أيضا كتبا أو نسخا من كتب لمؤلفين مشهورين، وأطروحات في قواعد النحو والصرف، والمعاجم، وكتب في الطب، والبلاغة، والفقه، إلخ. كما تحتوي المكتبة العمرية كذلك على مراسلات مع القادة الروحيين والزمنيين الذين أقام معهم الحاج عمر تال الفوتي، علاقات مثل المامي عبد بوكار كين من فوتا، وأحمد البكاي من تومبوكتو، وشيخو أمادو من ماسينا. 

ويبقى الحاج عمر تال الفوتي، رحمه الله شخصية متعددة الأبعاد، تتجاوز الحدود السياسية الحديثة فيما بين بلدان وشعوب منطقة الساحل، وتمثل تراثا مشتركا بين أهالي منطقة غرب إفريقيا. وهو شخصية تفرض التقدير والاحترام سواء لدى محبيه ومريديه أو لدى خصومه.. 

ويستحق استرجاع تراث المكتبة العُمَرية أن تسعى النخب في المنطقة من أجل الضغط على فرنسا بغية الحصول على أصولها أو -على الأقل- على نسخ مصورة دقيقة منها، كما بادر إلى ذلك قبل فترة حفيد  المجاهد السيد اتيرنو منتقى تال في السنغال، Thierno Mountaga Tall، ضمن معركته التي صمم فيها على استعادة تراث الشيخ الحاج عمر تال الفوتي وإتاحة الإطلاع عليه والاستفادة منه لشعوب منطقة غرب إفريقيا.. خاصة بعد أن حصل سنة 1993-مقابل دفع التكاليف- على ميكروفيلم يتألف من حوالي 272 بكرة، مصورة من جزء كبير من كنوز الحاج عمر الفوتي المسلوبة من طرف المستعمر الفرنسي. 

وستظل المكتبة العُمَرية معينا ثقافيا وتاريخيا وأدبيا لا ينضب يمثل تنوع وثراء تراث الساحل.. ولا شك بأن الإطلاع عليه، أو بالأحرى دراسته بشكل منهجي، ستسمح لنا بالاقتراب بشكل أفضل من مجتمعات الساحل والغرب الإفريقي من وجهة نظر أنتروبولوجية وسوسيولوجية وثقافية، من أجل فهم أعمق لقضايا السلطة وإشكاليات الاختلافات السياسية والعقائدية بين مختلف الجهات الفاعلة في منطقة الساحل في تلك الحقبة من تاريخها، وبالتالي، سيمنحنا ذلك قدرة أكثر على فهم أبعاد ما يجري حاليا في المنطقة من توتر وعنف وصراعات..

نأمل أن تشجع جرأة رسالة الجزائر مؤخرا، من خلال الإصرار على استرجاعها لرفات مجاهديها بعد احتجازها عشرات السنين في متاحف المستعمر الفرنسي، الدول والحكومات في منطقة الساحل والغرب الإفريقي على المطالبة بشكل جدي ومثابر باسترجاع كنوز المُجاهد الحاج عمر تال الفوتي رحمه الله، وفي مقدمتها المكتبة العُمَرية ومخطوطاتها النفيسة، وأن يتم ذلك في مستقبل قريب إن شاء الله..

 

9. يوليو 2020 - 18:29

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا