لقد كان خطأ فادحا إنشاء "لجنة تحقيق برلمانية" للتحقق في ملفات فساد "معينة" من فترة حكم الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، وذلك لعدة أسباب:
أولا: أن أي محاكمة لفترة "حكم معينة" ينبغي أن تكون جذرية شاملة، تفتح جميع الملفات المتعلقة بتلك الفترة، ولا تنتقي ملفات بعينها، هذا ما تقتضيه الشفّافية أمام الشعب، والعدل في المتورطين، وهذا ما لا تحققه "ملفات لجنة البرلمان" التي تبدو جزئية وانتقائية، فهذه الملفات هي سبعة ملفات فقط، حسب ما أعلن عنه في بداية انطلاقة اللجنة البرلمانية، وهي (صندوق العائدات النفطية، عقارات الدولة التي تم بيعها في انواكشوط، نشاطات شركة بولي هوندونغ، تسيير هيئة اسنيم الخيرية، صفقة الإنارة العامة بالطاقة الشمسية، صفقة تشغيل رصيف الحاويات بميناء الصداقة المستقل، تصفية شركة سونمكس) فماذا تمثل هذه الملفات من الفساد الاقتصادي والسياسي الذي طال جميع المستويات وظل نهجا للحكومات المتعاقبة في عهد ولد عبد العزيز الذي فشل في إيقاف نزيف الفساد الموروث عن عهد ولد الطايع المشؤوم، ماذا تمثل هذه الملفات إزاء جرائم الفساد في قطاع الصيد وقطاع المعادن وقطاع الزراعة وقطاع الجمارك والمالية، ماذا تمثل أمام جرائم المحاباة السياسية والرشوة في الانتخابات، وجرائم تغيير الدستور لأسباب شخصية أنانية.
ولو سكتنا عن تلك الملفات الشاملة، وقبلنا بالتعليل الذي قدمه بعض نواب البرلمان، وهو "أن التحقيق لا يمكن أن يطال كل شيء، ولذلك تم الاقتصار على ملفات أساسية وخطيرة" لو قبلنا بهذا التعليل في اختيار الملفات، فإنه لن يكون مقنعا، عندما نفحص هذه الملفات المطروحة للتحقيق، لأنها كلها ملفات "جزئية وبسيطة" بالمقارنة مع الفساد في العام في القطاعات التي تم انتقاؤها منه – (ولسنا نقلل من شأن أية جريمة فساد) – فماذا يمثل صندوق عائدات النفط إلى بالمقارنة مع صفقات التنقيب عن النفط وصفقات استغلال النفط ونسب عائدات الدولة منها، لا شيء، فالعائدات هي فرع عن تلك الأصول الخطيرة التي كان ينبغي البدء بها قبل صندوق العائدات أو إدراج الصندوق في تحقيق شامل فيها، وما يقال عن صندوق العائدات يقال عن المؤسسة الخيرية لسنيم، فماذا تمثل هذه المؤسسة من سنيم نفسها التي عشش فيها الفساد عقودا وعقودا، وماذا تمثل قضية شركة هوندونغ من فساد قطاع الصيد وصفقاته الكثيرة الفاسدة التي أدت إلى نهب ثرواتنا، وتركتنا جوعى ونحن ثلة من البشر على شاطئ طوله 700 كيلومتر غني بما يمكن أن يشبعنا ويشبع شعوبا معنا من السمك العالي الجودة، وما يقال عن هوندونغ يقال عن صفقة رصيف نواكشوط، فماذا تمثل من الفساد في قطاعي الصيد والاقتصاد وقطاع التجهيز والنقل، وهكذا إلى آخر الملفات.
ثانيا: لو قبلنا - فرضا- وجاهة هذه الملفات وأنها تحقق الشفّافية والعدل المطلوبين، فإن التحقيق فيها لا شك أن سوف يستدعي ملفات أخرى وأناسا آخرين، فماذا ستفعل اللجنة مع هذه الملفات والتشابكات الكثيرة التي ستطال لا محالة شخصيات من الحكومة والبرلمان وكثيرين آخرين يظنون أنفسهم أنهم ضمنوا النجاة من التحقيق بتحديدهم لتلك الملفات، إن العدل يقتضي البحث في كل شيء، وفتح كل يقود إليه التحقيق في تلك الملفات المحددة، وهذا ما لا أظن أن البرلمانيين حسبوا له حسابا، ولعلهم تحت نشوة تحقيق مكسب سياسي عابر تجاهلوه، لكنهم جروا أنفسهم وجروا البلاد معهم إلى اتجاه غير محسوب.
ثالثا: من هؤلاء الذين سيحققون في ملفات الفساد؟، ما هو هذا البرلمان الذي سيحقق في تلك الملفات؟، أليس برلمان ولد عبد العزيز الذي صنعه بنفسه، أليسوا مرشحيه الذين اختارهم وسخر لهم الدعاية بكل الوسائل المشبوهة (من ترغيب وترهيب) التي تمارسها الدولة، والتي نعرف جميعا أساليبها، هناك في كواليس الحكم ودوائر الإدارة الإقليمية، ومجالس شيوخ القبائل والوجهاء، وجيوب رجال الأعمال، حتى نجحوا ودخلوا البرلمان، صحيح أن هناك معارضة في البرلمان كانت هي التي دعت إلى تلك التحقيقات وتزعمتها في البداية، ويحق لها ذلك لأنها ليست مسؤولة عن شيء من الفترة السابقة، ولا شبهة عليها فيها، لكن، صحيح أيضا أن وزن المعارضة في البرلمان ضعيف، ولا يمكن أن تفعل شيئا من دون موافقة الموالاة وأصواتها، مما يعني أن برلمانيي الموالاة أرادوا تلك التحقيقات ودبروا لها، فلماذا إذن فعلوا ذلك، وهم أتباع ولد عبد العزيز الذين كانوا ينوون تغيير الدستور ليمكنوه من مأمورية ثالثة ورابعة وربما من ملكيّة، أين هي الشفّافية إذن، من سيقتنع بأن أولئك البرلمانيين الموالين سيحققون العدل فيما يقومون به، إنها قضية "فيك الخصام وأنت الخصم والحكم"، فهم جزء من القضية لأنهم كانوا هناك في دوائر الحكم ومؤسسات الدولة والبرلمان عندما اتخذت القرارات وأبرمت تلك الصفقات، وهم خصم في القضية لأنهم ربما يسعون إلى إبعاد أنفسهم من التهمة وإلصاقها بغيرهم، فكيف يكونون حكما عدلا فيها؟
رابعا: إن أي محاكمة يستدعى فيها رئيس جمهورية سابق في أي دولة استشرى فيها الفساد وعشش، هي بالدرجة الأولى محاكمة سياسية هدفها إيضاح الجريمة السياسية التي ارتكبها ذلك الرئيس في حق وطنه، وتنضوي تحت مفهوم الجريمة السياسية بالضرورة كل الجرائم الأخرى الإدارية والتنموية والقانونية، فليس الرئيس شخصا عاديا يحاكم على ملف هنا أو ملف هناك، اللهم إلا إذا كان في دولة ديمقراطية ديمقراطية حقيقية، يحكمها القانون، وقد كانت دولتنا بعيدة من تلك الديمقراطية لعدة عقود، فقد كان أولى بالبرلمانيين عندما وجدوا العزم والشجاعة لمحاكمة الرئيس السابق أن يجعلوها محاكمة سياسية.
خامسا: يعلمنا التاريخ الحديث أن المحاكمة السياسية لا تقوم بها إلا ثورة شاملة، ثورة جذرية على نظام فاسد تريد اقتلاعه من أصوله، وهذه الثورة لم تحصل في موريتانيا في واقعه الحالي، لأن النظام الحالي خارج من نظام ولد عبد العزيز ويرتبط به بأسباب كثيرة، بدءا برئيس الجمهورية محمد ولد الغزواني الذي كان رفيق دربه، وصولا إلى بعض الوزراء والمسؤولين والبرلمانيين، ولا يعني ذلك اتهاما لأي منهم، فسواء كانوا بريئين من فساد ولد عبد العزيز أو متورطين فيه، فإن استدعاءهم الآن للإدلاء بشهاداتهم في تلك الملفات مستحيل، وليس في نية التحقيق البرلماني قطعا يستدعيهم، وليس من مصلحة الدولة وهيبتها وأمنها أن يستدعوا له.
سادسا: يعلمنا التاريخ أن ضريبة المحاكمة السياسية الشاملة قد تكون أثقل وحصادها قد يكون أمرّ من حصاد الفترة التي تحاكمها، لأن المحاكمة السياسية بطابعها الشامل الذي يفتح كل الملفات ويحقق في الفساد شتى الاتجاهات سوف تطال ألافا من الناس وفئات متعددة من المجتمع متورطة في الفساد بطريقة أو أخرى، وهذا يخلق جوا من مشحونا بالكراهية والتحفز لردات الفعل العنيفة، وفي بعض الأحيان يؤدي إلى انتكاسات سياسية واجتماعية، بل حروب أهلية وتفكك لجسم الكيان الواحد، لقد كانت ضريبة محاكمات الثورة الفرنسية باهظة بما يقارب خمسين ألف حكم إعدام خلال أعوامها الأولى التي تاهت فيها بين الثورة والثورة المضادة، وحدثت لها انتكاسات كبيرة وخطيرة، ولولا وجود بطل قومي وقائد عسكري محنك هو نابليون بونابرت لما نجحت تلك الثورة وانتشرت أفكارها في العالم وأصبحت أعظم ثورة في التاريخ الحديث، والأمثلة على ذلك كثيرة، ولا تزال شواهده قائمة في عصرنا الحاضر، فما الذي جناه العراق مثلا من محاكمة نظام الرئيس الراحل صدام حسين سوى المزيد من الخلافات والدم، لأنها كانت محاكمة لفصيل سياسي بأسره، ولمذهب ديني بكامله، بل لمجتمع بشموليته، ولا يزال أوارها يستعر ويفني الفئام من الناس، ولا يلوح في الأفق أنه سوف يخمد قريبا أو أن الدم سيتوقف تدفقه، لقد تركت تلك المحاكمات ذلك البلد العظيم ضعيفا محطما ومخترقا من كل الجهات.
ولا يخفى على أحد وضع موريتانيا الهش، وأي تحقيقات ومحاكمات موسعة لا بد أن تحدث ردّات فعل تصغر وتعظم بحسب درجة تأثير التحقيق على أشخاص أو مجموعات أو حتى فئات معينة، ولا أحد يستطيع أن يتحكم مستوى واتجاهات ذلك العنف، حتى ولو كنا في الوقت الحاضر مطمئنين إلى الهدوء السياسي وشبه الإجماع الذي صنعته مبادرات الرئيس محمد ولد الغزواني. لقد كان قرار اللجنة العسكرية التي أطاحت بمعاوية ولد الطايع بعدم محاكمة فترة ولد الطايع قرارا حكيما جنب البلاد انزلاقا كان سيكون خطيرا، والذين أدركوا حكم ولد الطايع يعرفون أن حجم الفساد فيه والإجرام أعظم من أن يقارن بما أجرمه حكم ولد عبد العزيز بأضعاف أضعاف، لأن فيه السجون والتنكيل والقتل والإبادة وهدم هيبة الدولة والمتاجرة بالمؤسسات الحكومية، ورغم ذلك ذهب بما فعل لأن محاكمته كانت ستكون محاكمة لآلاف من البشر الذين اقترفوا جرائم كثيرة في تلك الفترة، ولن تؤدي إلا إلى مزيد من الخلاف والصراع والأزمات.
لقد كان أقصى ما يريده الموريتانيون من الرئيس محمد ولد عبد العزيز بعد أن سطا على الحكم، وظهر مبكرا أنه فاقد للرؤية الإصلاحية، ومستبد برأيه، وغير قادر على محاربة الفساد هي أن يتخلصوا منه بأقل ثمن، لأنه متشبث بالسلطة مستميت فيها بكل وسيلة، ولم يكن أحد يتصور أنه سيخرج منها بهذه السهولة، لكنّ الله سلّم، وكان ما كان مما ظهر بعضه وخفى جله، واستُلّ منها بسلام، واليوم كفانا منه ذلك، وكفاه منا، وعلى البرلمانيين أن يتركوه يعيش بقية عمره بسلام بعيدا عنا.
إن موريتانيا ليست بحاجة إلى محاكمة سياسية، ولم تكن تلك المحاكمة مطلبا شعبيا خلال الأخيرة، ولم ترد في برنامج الرئيس ولد الغزواني الانتخابي، لقد ظهرت فجأة بعد أن فشلت مجازفة ولد عبد العزيز الأخيرة بمحاولته السيطرة على حزب الدولة "حزب الاتحاد من أجل الجمهورية"، وظهر أنه ضعيف ومعزول ولم تعد له علاقة بالحكم، فكان أن تكالبت عليه سهام المعتدين من كل جانب، وكشر له مصفقوه عن أنيابهم، وبدأوا مباراة النيل منه، زلفى للرئيس الجديد، وإعلانا للبراءة منه، ظنا منهم أن ذلك يبرئهم من مما اقترفته أيديهم تحت حكمه، ويؤهلهم لأن يكونوا موجودين فاعلين الوضع الحاضر، وكان أن ظهرت قضية التحقيق في هذا السياق، فهي قضية حق أريد بها باطل، لكنّ الشعب ليس غبيا ولا تنطلي عليه الحيل، فلم يتظاهر ولم يتحرك لمساندة ذلك "التحقيق" لأنه يعرف أنه لم يوضع ليعاقب المجرمين، ويعيد لموريتانيا ثرواتها المنهوبة، بل عمل لتبرئة ذمة أصحابه من حقبة سياسية كانوا هم أوجهها البارزة، وفاعلوه المقتدرين.
لقد كان على الرئيس ولد الغزواني أن يهمس في آذان البرلمانيين أن يوقفوا ذلك التحقيق قبل بدئه، لأنه ليس تحقيقا عادلا، ولأن انعكاسه على التماسك الاجتماعي وأمن الوطن أكثر ضررا مما المنفعة التي قد يجلبها، لكنْ، ربما نأى بنفسه عن تلك القضية بالذات حفاظا على استقلال البرلمان، ولكي يؤكد للمواطنين أنه - وهو أحد حلفاء ولد عبد العزيز أثناء فترة حكمه - لا يخشى شيئا من التحقيقات، ولن تلحقه شبهة فساد منها، ويؤكد أيضا أنه لا يريد أن يكون عائقا أمام إنفاذ القانون وتحقيق المصلحة الوطنية، وهذا موقف أخلاقي يحمد له، لكنّ الحزم ومصلحة الوطن كانت تقتضي منه أن يوقف التحقيق، ولا تزال تقتضي منه ذلك، وأن يفعل كما فعل يوم أن عاد ولد عبد العزيز وأراد أن يسطو على الحزب والبرلمان ليكون رئيسا موازيا، ويظل ممسكا بجانب من السلطة، ولو فعل ولد الغزواني ذلك لانصاع البرلمانيون لا محالة لتوجيهاته لأنهم "أبناء موالاة" يدورون في فلك الرئيس حيث دار، ولا حياة لهم خارج ذلك الفلك، وليس هناك عيب في أن يُستغل ضعف الضعيف وولاء المنصاع إذا كانت المصلحة الوطنية تقتضي ذلك، كما أنه لا يضير الرئيس في شيء أنه كان حليفا لولد عبد العزيز، فالعبرة بالمستقبل، وبما سينجزه هو، وكثيرا ما خرج رؤساء من حكم فاسد كانت لهم فيه مناصب، ليظهروا حزما ووطنية ونزاهة، ويحكموا بحكم مغاير له، وقد كان المرحوم أعل ولد محمد فال رمزا من رموز نظام معاوية ولد الطايع، لكنّه عندما تولى رئاسة الدولة بعد الانقلاب أظهر حزما ووطنية، واستطاع خلال الأشهر القليلة التي أمضاها أن ينفذ برنامج المرحلة، ويضع الأسس الصحيحة للفترة اللاحقة، ولم يضره انتسابه لذلك النظام.
إن ما تحتاجه موريتانيا اليوم هو إيقاف نزيف الثروة الوطنية بمحاربة تستأصل الفساد، وإقامة تنمية شاملة تعود بالنفع على الشعب، ومحاربة الفساد هي بالدرجة الأولى عمل الحكومة، وتبدأ أولا برأس السلطة، فالضمانة الأولى لتلك المحاربة هي انتخاب رئيس يمتلك رؤية للإصلاح وإرادة له وسلطة تؤازره، والسنة التي انصرمت من حكم الرئيس ولد الغزواني تبشر بأنه يجمع تلك الصفات، والضمانة الثانية هي تعيين حكومة من وزراء نزهاء قادرين على محاربة الفساد، ونعتقد أن الفترة الماضية أظهرت أن تشكيلة الحكومة الحالية تلبي إلى درجة كبيرة تلك الصفات، ثم يتدرج الأمر إلى مؤسسات الدولة التي ينبغي أن تنظف من أيدي الفساد تباعا وعلى تدرج بدءا بالمسؤولين السامين الذين ينهبون مؤسسة بكاملها إلى آخر فرّاش في أبعد إدارة في البلاد وأقلها شأنا يبيع سائل التنظيف الأصلي ويستعمل بدلا منه ماء برميل عفن وقطعة من صابون "البار"، وأن توضع لذلك خطة وطنية تجمع بين مستويي"قرب المدى" و"بعد المدى" حسب الأولويات التنموية وحاجات المواطن، وتدل المؤشرات الراهنة على أن الحكومة عاكفة على ذلك، والعبرة بالنتائج.
ينبغي إيقاف هذه المسرحية الهزلية التي يلعبها نواب البرلمان، وينبغي على نواب الموالاة أن يكفوا أيديهم، وأن ينتظروا ما تبعث إليهم به الحكومة من مشاريع تنموية ليصادقوا عليها، كما تعودوا أن يفعلوا مع حكومة ولد عبد العزيز، وأن لا يشوشوا على برنامج الرئيس وحكومته بصراعات تضر جو الهدوء والانسجام الوطني السائد الآن، وأن يحافظوا على أمانهم الشخصي من تبعات الفساد، حتى يستكملوا عهدتهم البرلمانية بسلام ويرحلوا، لأن الفترة القادمة لن تكون لهم، وسوف يغادرون البرلمان إلى النسيان، ونرجو من الله أن ينتخب بعدهم برلمان وطني انتخابا نزيها ليس فيه شبهات من نهج الترغيب والترهيب الذي لولاه لما كانوا هنا اليوم.