بتنا ليلتنا الأولي بمدينة غزة- بعد يوم شاق قضينا أغلبه داخل صحراء سيناء- وفي الصباح انطلق بنا مرافقونا الفلسطينيون إلي بيت الشيخ أحمد ياسين رحمه الله، حيث توقفنا بالقرب منه عند المسجد الذي صام فيه آخر يوم من حياته وقام فيه ليلته الأخيرة وصلي فيه آخر صلاة الفجر لحظات قبل استشهاده،
فوجدنا مآذنه مدمرة بالمجمل من طرف الطيران الصهيوني، إمعانا في الإنتقام من هذا الشيخ الذي حول ضعفه الجسدي إلي بركان يهز كيان العدو، بفضل إخلاصه النية لله سبحانه وتعالي وتفانيه في تحرير الأرض والعرض.
وفي الطريق إلي بيت الشيخ وجدنا ابنه الذي كان برفقته لحظة استشهاده فدلنا علي المكان الذي استهدفه فيه صاروخ الغدر الصهيوني وآثاره علي المنزل المجاور وكشف لنا عن أن الصهاينة المجرمين ضربوهم بصاروخ آخر عندما تجمعوا حول الشيخ بعد استشهاده، هذا الإستشهاد الذي يمثل بداية قصة وليست نهايتها، توجت بحربي الفرقان والسجيل، الذين كانا مسماران في نعش هذا الكيان الغاصب وستثمر قريبا إن شاء الله عند تحرير بيت المقدس وبقية الأرض التي باركها الله، بعيدا عن أوسلو ومشتقاتها، والتي أصبحت بحمد الله تتواري عن الأنظار، ليختفي معها مشهدها المعتم والمذل.
وصلنا إلي بيت الشيخ أحمد ياسين، الذي كنا نعتقد أنه لن يكون، سوي قصر منيف ومكان مميز، لكننا فوجئنا به مجرد غرف ثلاث متلاصقة الجدران، أفخمها صالة الإستقبال، التي شيدت بفضل إلحاح من زعماء حركة حماس، الذين أقنعوا الشيخ بعد جهد جهيد بضرورة وجود غرفة لاستقبال كبار الضيوف الذين يزورونه بالمنزل- ما دام يرفض بشدة بناء المنزل بطريقة مغايرة.
إنها صالة لا يتجاوز عرضها أربعة أمتار وطولها قد لا يتجاوز الخمسة إلا قليلا، تمثل المشهد الأول من المنزل، تليها غرفة نوم الشيخ التي هي عبارة عن 4م في 4م وبجانبها غرفة تماثلها في المساحة، يعلوا الجميع سقف من "الزنك"، يتوسط الجميع مكان ضيق وضع فيه مقعد الشيخ الذي استشهد عليه وثيابه التي مزقها صاروخ الغدر الصهيوني وفي الأعلا غرفة قد تكون مستحدثة توصلك إليها سلالم ضيقة.
هذا علي مستوي المظهر، أما الجانب الآخر من الصورة، فمن الصعب نقل صورة صادقة عنه، إنه مشهد روحاني أبكي الفنانة المعلومة وأسال سيلا من دموع الأخ غلام عندما شاهد مسجد الشيخ ومناراته المدمرة، أما بقية الوفد فلكل منهم طريقته التي عاش بها هذا المشهد: البعض رفض الجلوس علي كرسي الشيخ والنوم علي سريره، في حين جلس آخرون علي كرسي الشيخ وناموا علي سريره، يتقدمهم "ممين "طمعا في بركة الشيخ وتبركا بالمكان الذي جلس فيه ونام عليه.
إنه التنوع وتعدد الرؤي الذين ميزا قافلتنا، لكنه تنوع يجد التعبير عنه في إسم موريتانيا وبأعلام دولة موريتانيا، مشهد تجلي بوضوح عند ما قدم السيد إسماعيل هنية- للجمهور الشخصية المتحدثة باسم الوفود القادمة من أصقاع العالم خلال مهرجان حماس المخلد للذكري الخامسة والعشرين لانطلاقتها- باعتزاز وتقدير وبإسم موريتانيا هذه المرة: الشيخ محمد الحسن ولد الددو، حيث ألقي كلمة نقلت عبر قنوات وإعلام العالم مباشرة.. ولعلها الفرصة الأولي التي وجد فيها إسم موريتانيا في موقع الصدارة عالميا وخلال لحظة قد تبقي عالقة في الذاكرة بالنسبة للكثيرين.. وسوف لن ينساها الصهاينة الذين كانت طائراتهم تحلق فوق الحفل وتشاهد المجاهدين خالد مشعل وموسي أبو مرزوق وإسماعيل هنية وبقية قيادة حماس في مكان واحد، دون أن تكون قادرة علي فعل أي شيء..إنها العناية الإلهية ووعد الله الذي لا يخلف وعده.
جلسنا نتابع هذا الحفل ونستمع إلي الخطباء الذين تعاقبوا علي منصة الخطابة، وقد كنا نستمع إليهم ربما أفضل من غيرنا، لأننا- وبفعل التأخر في الوصول- لم نجد سوي المكان المجاور لأعداد هائلة من مكبرات الصوت التي لا يشل عملها مطر ولا تعاني من انتهاء العمر الإفتراضي- كما هو شائع عندنا.
ومن الأمور التي لفتت انتباهنا هناك، هي: أنه عندما صب علينا المطر وابتلت ثيابنا، فإذا بنا نكتشف عند انتهاء الحفل أنها جفت وغابت عنها جميع آثار البلل.. ولم نعاني بعدها من أي تبعات صحية، مألوفة، كانت مؤكدة الحدوث، لو كنا وقتها في صحرائنا الحبيبة.
انتهي يومنا الأول في غزة العزة وكان يوما مليئا بالنشاط، لكنه- رغم ذلك أنسانا يوم سيناء، لأنه كان يوما لا ينسي: روحانية منزل شيخ المجاهدين: الشيخ أحمد ياسين، حيث انهارت دموع التأثر وانعكست علي الجميع روحانية المكان وحيث وحيث......كانت زوجة وبنات الشيخ المنقبات وإبنه وحفدته في مقدمة مستقبلينا، فلم تدفعهم مكانة والدهم إلي أن يظهروا بمستوي يضعهم فوق الناس، بل كانوا ناسا عاديين، ميزتهم التواضع والبساطة ولم نشعر طيلة مكثنا بهذا البيت بمرور الوقت، الشيء الذي أخر وصولنا إلي الحفل الجماهيري المنظم من طرف حركة حماس، لأننا ببساطة كنا في منزل شيده وعاش فيه رجل لا كالرجال ومجاهد لا كالمجاهدين وشيخ لا كا الشيوخ .. تقدم إليه شاب مصافحا، فلم يرفع الشيخ يده إليه ليصافحه فانسحب الشاب غاضبا وعند خروجه خاطب أحد الحضور قائلا: أنتم تقدرون الشيخ وتقولون إنه كذا وكذا، في حين وجدته متكبرا لا يصافح الناس، وعندما علم أن الشيخ مشلولا لا يستطيع تحريك أي عضو منه، سوي لسانه وعينيه رجع إليه مسلما وتوج هذا السلام بزواجه من ابنة الشيخ.
حكايات كثيرة وصور لا تنسي، تخللتها قصة استشهاد الشيخ أحمد ياسين، الذي كان قبل هذا الاستشهاد طريح فراش المرض في المستشفي، يعاني من عدة أمراض كل واحد منها مسبب للوفاة، حيث كان الأطباء يقولون لخاصته وذويه أنه لن يعيش أكثر من يومين أو ثلاث، لكن الشيخ طلب إخراجه فورا من المستشفي، كي لا يكون سببا في إزهاق أرواح بريئة بالمستشفي، فإذا كان هو مستهدفا من طرف العدو الصهيوني، فيجب أن لا يتسبب في الأذي لأناس بريئين.
أصر الشيخ علي إخراجه من المستشفي، دون أن يكون علي علم بما ذكره الأطباء عن صحته، فظل يومه في المسجد وهو صائم وليلته وهو قائم وبعد أن أدي صلاة الفجر، توجه إلي منزله وفي الطريق بين منزله المتواضع مظهرا والفخم معنويا، انطلق صاروخ من إحدي طائرات الغدر الصهيوني لتحول جسده النحيل والمنهك إلي أشلاء، فيرحل هذا الشيخ العظيم شهيدا عن دنيانا الفانية إلي موقع يتمناه كل حر وكل شريف..إنه الشهادة.
وبما أن ليل غزة يكتنفه تهديد العدو الصهيوني برا وبحرا وجوا، سأبقي في الفندق وأنام ليلتي الثانية في غزة
وأترككم في حفظ الله ورعايته.