... واستمرت الحرب سجالا بعد وفاة الولي رحمه الله، زهاء سنتين. ركز خلالهما "الصحراويون" وحلفاؤهم، على ذبح شرايين "الحلقة الضعيفة": موريتانيا، وتدمير مصالح أوروبا الحيوية فيها. وذلك بواسطة شل صناعة استخراج وتصدير الحديد الخام، أساس اقتصاد البلاد آنذاك، الذي ينقله من معدنه في ازويرات إلى ميناء التصدير في نواذيبو، أطول قطار في العالم عبر خط حديدي طوله 600 كم
يمر بمحاذاة الصحراء في بعض أجزائه، خاصة في قرية شوم، من جهة. وانتهاج سياسة الفتك والأرض المحروقة (القتل والسبي والنهب والفساد والتعذيب والإرهاب) في كل بقعة يصلون إليهاحتى ولو كانت مقدسة وخارج محيط منطقة النزاع كالنعمة وولاته وتجكجة وتيشيت وشنقيط ووادان وأطار ونواكشوط.. الخ، من جهة ثانية. بشكل أعاد إلى الأذهان ذكريات عهد السيبة البغيض؛ ويتنافى وقيم الإسلام والفروسية والمجتمع، ولا يتناسب إطلاقا مع ممارسات السلطات الموريتانية في وادي الذهب. الشيء الذي أنهك العباد وأتلف البلاد، فاضطر قادتها الذين بدؤوا يكتشفون - بعد فوات الأوان- فداحة ما أقدموا عليه، وهم الخارجون بالكاد أمس عن الوصاية الفرنسية، إلى الرجوع إلى كنف فرنسا عسكريا (الاعتماد على قاعدة دكار وطلعات جاغوار) ومد اليد (الذي لم يكن من شيمنا) إلى المال الخليجي.
يضاف إلى ذلك أن سياسة التعنت والإقصاء والانفراد بالسلطة، التي أصروا على انتهاجها، وما جرّت الحرب من ويلات اقتصادية واجتماعية، كل ذلك بدّد رصيد النظام، وأطفأ شعلة الحماس الذي فجرته ريح الإصلاح والوحدة الوطنية. ولم يبق من الجبهة الوطنية الضمنية التي جسدتها الإصلاحات وتأميم ميفرما، والعفو العام عن كافة المتابعين، وتبني ميثاق وطني تقدمي، سوى وحدة الشباب التي تحققت بصعوبة في مؤتمره الذي نجح حصرا في انتخاب مجلس وطني يمثل كافة أطيافه يتبوأ رئيسه المحسوب على الكادحين مقعدا استحقاقيا في المكتب السياسي للحزب ـ الجبهة الحاكم، دون أن يوجِد آليات لتنظيم وتوجيه وتفعيل جماهير الشباب التي ألقي لها الحبل على الغارب في أوج الأزمة والحرب.
وفي ظروف قاتمة كتلك، لم يشكل انقلاب العاشر من يوليو مفاجأة. بل كان نتيجة حتمية، وخاتمة مطاف متوقعة جدا، خاصة لدى نواة الكادحين الذين حذروا بإلحاح شديد بعض "حلفائهم" في السلطة من مغبة السياسة المتبعة، ومن أخطار انقلاب عسكري يلغي المكاسب الوطنية، ويرجع البلاد عقودا إلى الوراء، ويجعلها غنيمة سائغة في أيدي ضباط عشائريين، شبه أميين ـ سياسيا ـ لدرجة أن معظمهم لا يملك رؤية واضحة أو مفهوما صحيحا للدولة والوطن! ضباط وجدوا أنفسهم فجأة، في أوج أزمة، وهم يتربعون على عرش قوة منظمة ومسلحة هائلة، قفزت في ظرف ثلاث سنوات، دون تدرج طبيعي، أو إعداد مهني راسخ، من 1200 جندي إلى 20000 جندي. مع ما ينجم عن ذلك من أعباء اقتصادية واجتماعية، وما يترتب عليه من اختلال في قوى وعلاقات الإنتاج!
ولكن، هل كانت باليد حيلة، وهل كان بالإمكان تجنب ذلك المصير بثمن أقل من الذي دفعته وتدفعه البلاد لحد الآن بسببه؟ سؤال نترك الإجابة عليه للتاريخ!
ومن المؤكد أن الحرب التهمت بسرعة مدهشة (ثلاثون شهرا) ما جمعته البلاد خلال فترة انعتاقها وعافيتها القصيرة، وفجرت تناقضات الواقع الموريتاني، فأصبح بالإمكان حصول ما كان مستحيلا!
وما عَقْدُ مؤتمر طارئ لحزب الشعب الحاكم، لم يتمخض عن شيء غير تكريس سلطة الزعيم، والدعوة إلى خلوده في سدة السلطة، واللجوء إلى استغلال الدين: "تطبيق الشريعة الإسلامية"، إلا دليلا قاطعا على فقدان المبادرة، وعجز النظام عن حلحلة الوضع، فضلا عن إخراج البلاد من المأزق الذي حشرها فيه.
ولم يكن الكادحون الذين خرجوا للتو من مواجهة دامت سبعا شدادا مع النظام، والذين أنهكهم صراعهم الداخلي حول سياسة الجبهة أكثر مما أثخنتهم تلك المواجهة، بأحسن حالا من غيرهم. خاصة أن جميع أبواب العمل الشرعي والتأثير سدت في وجوههم، ولم يعد بإمكانهم ممارسة العمل السري وقد أصبحوا "شركاء" "قابعين في بيت من زجاج...." حسب تعبير وزير الدولة للسيادة الداخلية! وسيف الخيانة مسلط على رؤوسهم!
لكنهم مع ذلك لم يستسلموا، وأعادوا الكرة من جديد، فأجروا نقاشا صريحا مع الرئيس المختار ولد داداه الذي أدرك خطورة الوضع، وكان لا يثق في هذه القضية بمعظم أصحابه ومساعديه، فتقرر تكليف أحد الزملاء بفتح حوار عاجل مع الصحراويين بغية الوصول إلى حل يضمن سلامة البلاد، ويجعل نهاية ولو مؤقتة للحرب. وتم اللقاء في سرية مطلقة، ونجحت المهمة، وتم الاتفاق على وقف استهداف موريتانيا، مقابل استعدادها لقبول أي حل مناسب فيما تحت يدها من الصحراء حين تنضج الظروف الإقليمية لذلك. وكادت الخطة تؤتي ثمارها، لولا أن عاجلها الانقلاب ووأدها في المهد!
هل حصل لقادة الانقلاب ومن كانوا يقفون وراءهم علم بهذه الخطة فسارعوا في استباقها، ثم استثمروها في مشروعهم؟ أم إن ما جرى لا يعدو كونه محض صدفة تعسة؟
..قبيل الانقلاب بنحو شهر، زارني، عصر أحد الأيام، صديقان من محيط حركة الكادحين (أصبحا فيما بعد مسئولين في دولة الانقلاب)، فناقشنا الأوضاع في جلسة شاي أخضر منعنع موريتانية. تطرق ضيفاي إلى خطورة الوضع وضرورة التغيير (فهمت أنها طريقة لاستدراجنا وجس نبضنا) فأكدت لهما موقفنا الثابت المعارض لحل الانقلاب، لما سيجره الحكم العسكري الطائش من ويلات ودمار على بلاد هشة وحديثة العهد بالدولة، وموافقتنا على كافة الحلول الأخرى التي من شأنها إخماد نار الحرب العبثية المشتعلة في المنطقة، حتى يتسنى لشعوبها الشقيقة أن تنعم بالسلام وتتفرغ للبناء والنماء، أو التي تسمح على الأقل بإخراج موريتانيا من الحرب وإبعاد الجيش عن السلطة! لم أكن أعرف يومها علاقة (...) بمشروع الانقلاب، وإن كنت أعلم أنه صديق حميم لزميل يميل ـ كغيره من "يسار" الكادحين ـ إلى طرح "الصحراويين"، وذي صلة وطدتها أواصر الجهة بالجناح المدني في الانقلاب.. وتبوأ مناصب عليا لاحقا في الدولة. أما (...) فكنت أعرف هواه. كان من أصفياء السيد أحمد بابه مسكه القيادي يومها في الجبهة الصحراوية، وقد التحق مثله بالجزائر في بداية الحرب، والتقيت به هنالك.. وظل قريبا من الجبهة يقوم ببعض مهامها، وإن كان لم يلتحق بصفوفها علنا! ولعل هذا هو سبب انتدابه من طرف قادة الانقلاب للقيام بمهمة لدى الرئيس بومدين. ذلك الانتداب الذي حدثنا عنه بأسلوبه الظريف في مذكراته الطريفة.
* * *
كنا عصبة من القيادة ما تزال متماسكة. وبعد اجتماع خاطف في الصباح، تبادلنا فيه الأنباء الأولية عن الانقلاب، توجهنا إلى منزل زميل لنا ينحدر من الحوض الشرقي له علاقة بالملازم المختار ولد السالك ضابط الحرس الذي اقتاد الرئيس المختار ولد داداه فجر ذلك اليوم، ولعب في ظل أخيه المرحوم الرائد جدو ولد السالك دورا بارزا صبيحة الحدث. ومن زميلنا الذي التقى ذلك الضابط حصلنا على أخبار الانقلاب: من هم قادته؟ وكيف تم؟ ومن هي القوى المشاركة فيه؟
لم تخب توقعاتنا، ولم يخطئ حدسنا إذن!
وفي اليوم التالي زرت السيد سيد أحمد ولد ابنيجاره وزير المالية الجديد في منزله، وهو الذي اعتبر يومها العقل المدني المستنير للانقلاب. كنا أصدقاء، من دون ألفة، عن طريق "عصبة" يحي (ولد عمار) ـ مَمّدْ (ولد أحمد) ـ بَنْ ( الاسم الذي تطلقه العصبة على ولد ابنيجاره). استقبلني الرجل استقبالا طيبا أفتر من استقبال "رفاق السلاح" وأحر من لقاء الخصوم.
كان يجلس في بهو قصره الفاخر (كان يشغل، قبل الانقلاب، منصب المحافظ المساعد للبنك المركزي) يتناول فطور الصباح، وعلى مائدته راديو زينيت يتقصى عبره أنباء "الفتح"، ومن حين لآخر تلتقط ظبيات أليفة ترعى في حديقة القصر الغناء شريحة خبز من مائدته! الشيء الذي لم يكن مألوفا يومها في حياتنا البسيطة الخشنة. لم أعد أتذكر تفاصيل الحديث الصريح الذي دار بيننا ذلك الصباح رغم اختلاف مشاربنا، واختلال موازين القوة بيننا. لكني أتذكر صورا عديدة من ذلك اللقاء تحديدا، ومن العاشر يوليو عموما، منها على سبيل المثال:
* أن السيد الوزير طلب مني بإلحاح الانخراط في العملية الجارية، وألمح إلى ما يمكنني كسبه شخصيا، من خلال ذلك، من مزايا. وهذا أمر كان يومها مستهجنا جدا، لكنه بالنسبة لي كان مؤشرا على النهج الجديد في تسيير الشأن العام. خاصة إذا ما أضيفت إليه ظاهرة نهب موجودات رئاسة الجمهورية، وممارسات الفئة التي أحاطت بمدير ديوان الرئيس الجديد تغمده الله برحمته.
* أن الزميل يحي ولد عمار لما زار "بَنْ" من بعدي مستجليا كنه الأمر، قال له صديقه الوزير مزهوا بإنجازه: "أرأيت يا يحي! لقد ثار الجيش واستولى ببطولة على السلطة". فرد يحي ببديهته وعفويته المعهودتين ونبرة تهكمه الحادة: "إنها، في نظري، أعمال جيش مهزوم، تذكر مرابضه"! فغضب "بَنْ" حتى انتهر يحي على غير عادته! ... ولكنه المُلْك!
* بينما كنت صدفة في مطار نواكشوط، غادر وفد رسمي رفيع المستوى يمثل وجه البلاد الجديد: جيل سحيق مستهلك لحد التهرؤ، طعّم بـ"شباب" مزيف كعلامة مقلدة مغشوشة.
* في عصر يوم العاشر يوليو كنت في الوقفة، وهي يومها صلة الوصل بين الأحياء الشعبية والعاصمة، إذ لا يوجد الرياض ولا عرفات ولا توجونين ولا دار النعيم ولا تيارت ولا تفرغ زينه؛ فإذا بجندي من الحرس باسط سلطته على المكان الذي لا أثر فيه لسلطة الدولة سواه، رغم أهمية المكان الأمنية. وكان منهمكا في تنظيم النقل من الوقفة على نحو "تاكسي للرجال" و"تاكسي للنساء". دنوت منه، وسألته عما يقوم به، هل لديه به تعليمات؟ فقال: نعم. أما علمت؟ لقد طبقت الشريعة الإسلامية اليوم!
* ارتدت دارا ظلت لفترة قصيرة ملتقى للجناح "الثوري" من قادة ومؤيدي الانقلاب. ولن أنسى ذات مساء وهم يتجاذبون الحديث، وكان يدور في معظمه حول الطريقة التي جرى بها الانقلاب، والتخطيط المحكم الذي تم اتباعه، والقوات التي تحركت، والبطولات التي سطرت. كان المرحوم جدو حاضرا وكذلك "بَنْ" والأستاذ محمد يحظيه ولد ابريد الليل وبعض زملائنا من الكادحين الذين أيدوا الانقلاب، وغيرهم. وفجأة صاح في وجوههم الشيخ "المصطفى" (وهو صالح وابن صالح من ولاية العصّابة) قائلا: "كذبتم جميعا.. فبالله الذي لا إله إلا هو لم يقم أي منكم بدور يذكر، وإنما جدي ... رحمه الله هو الذي خطط الانقلاب ونفذه.. وهزم العدو! ذُوكْ اعْمَايَرْ بُويَ آنا النّهَاهْ"! لم يجرؤ احد من الذين خرجوا على "أبي الأمة" واقتادوه أسيرا، على الخروج على رواية الولي الصالح... أو الاعتراض على حرف واحد مما قاله! ولا غرو!
"إنها أولى انقضاضات النسر"!
* وخيم على الشارع، ذلك اليوم، قلق وحزن وحيرة، وخوف من المستقبل، وتحفظ عام تجاه الوافدين على السلطة، بلغ حد النبذ والمعارضة السلبية! الشيء الذي ما لبث مهندسو السلطة الجديدة أن وجدوا له متنفسا في بعث الشعور القبلي والجهوي، وانتهاك قدسية المال العام، واستباحته، واتخاذه سلاحا ظهرت فعاليته في خلق قاعدة "جديدة" للنظام "العسكري" الجديد.. وجاءت إعادة تسمية الولايات بأسمائها القديمة، ذات الدلالات القبلية والجهوية، لتصب في نفس الاتجاه! لقد تم إذن وضع أسس الجمهورية الثانية التي ما نزال، لحد الآن، نعيش آخر تجلياتها.