مذكرات الرئيس هيداله: "الكلام من فم صاحبه أحلى" / محمدُّ سالم ابن جدُّ

 

عايش الرئيس الأسبق محمد خونا ولد هيداله فترة مفصلية من تاريخ بلادنا تمثلت في التحول من الخضوع للمستعمر إلى الاستقلال الداخلي ثم الكامل، ومن ثم نشأة الدولة الموريتانية وما صاحبها من تحولات وإرهاصات وتفاعلات كانت لها بصماتها على التكوين السياسي والعسكري حتى اليوم.

 كما عايش حرب الصحراء الغربية ضابطا في قيادة الأركان ثم قائدا ميدانيا في وغى حرب أبناء الجلدة الواحدة، وما آلت إليه تداعياتها من الإطاحة بالمرحوم المختار ولد داداه واستيلاء الجيش وأعوانه من المدنيين على الحكم وما استتبعه من صراع من بين حلقاته رئاسة هيداله نفسه ثم الإطاحة به.

وعلى مستوى آخر مثل حكم الرجل ما يمكن اعتباره البداية الفعلية للحكم العسكري إذا لاحظنا طول فتراته بالمقارنة مع سابقيه؛ وسن قوانين لا تزال سارية واتخاذ قرارات بعضها مستمر حتى الآن كعطلة الجمعة، وبعضها انتهى بنهاية حكمه كإقامة الحدود ورفض الخضوع لشروط المانحين الدوليين والاقتراب الشديد من محور الجزائر والبوليساريو على حساب العلاقات مع المغرب.. إلخ، وبعضها استمر فترات مختلفة ثم تغير شكله كالهياكل (ثم الحزب الجمهوري) أو انتهى بتأثير رياح التغيير الدولية التي أعقبت سقوط جدار برلين كاللجنة العسكرية للخلاص الوطني.. وغير ذلك.

من ناحية أخرى يمتاز هيداله عمن حكموا بلادنا حتى الآن بأنه نال سجنا يساوي مدة حكمه وزاد عليه بثلاث سنوات من تحديد الإقامة ليصل الجميع إلى سبع سنوات! وهو ما لا يعرف أي موريتاني قاساه.

قيل الكثير وكتب الكثير عن فترة حكم الرئيس هيداله.. بين من اعتبره خامس الخلفاء الراشدين، والوطني المخلص الذي خاض المعارك ضد ذوي قرابته لحماية بلاده، وعاش زاهدا وأطيح به فقيرا، وضحى بوقته وبدنه وجزء من دخله في سبيل الوطن والمواطن، وأعاد للدولة هيبتها.. ومن اعتبره جلادا لا يكذب واشيه، حكم البلاد وظل ولاؤه لمن وراء حدودها، وأسس دولة بوليسية وزرع الخوف، وعمم القمع والتشريد والتنكيل والمداهمات.. وقل من أحله مرتبة بين المرتبتين.

كل ذلك وأكثر قيل وكتب؛ ولكننا لم نعرف وجهة نظر الرجل نفسه في حقبته ورؤيته الخاصة للأمور، وقل من عرف حياته الشخصية منذ ولد في داخلة انواذيبُ إلى أن اعتقل في تمثيلية "اگراب" وأعيد اعتقاله في العام التي مع فرسان التغيير، مرورا بما بين ذلك من تفاصيل يطول ذكرها.

لسد هذا النقص جاء الإصدار الحديث "محمد خونا ولد هيداله من القصر إلى الأسر" الذي يمثل الحلقة الأولى من سلسلة "هذه تجربتي" التي قررت وكالة "الأخبار" المستقلة للأنباء العمل على إنجازها حسب ما جاء في الكتاب ذاته.

 

محتوى الكتاب

 

يقع الكتاب في 212 صفحة تتوزعها ستة أبواب بعد المقدمة، هي:

 

1. من القلم إلى البندقية

في هذا الفصل يتحدث الرئيس الأسبق عن عائلته ونشأته، وتعلمه التقليدي والنظامي، ومعلميه وأساتذته في كل منهما، وكيف نال باكلوريا الرياضيات من ثانوية روصو فأراد أن يكون مهندسا وأراد والده أن يكون ضابطا، مع المرور بفترة تكوينه العسكري بفرنسا وتخرجه، وبعض الحزازات التي طبعت علاقاته ببعض الضباط آنذاك، ليصل إلى عمله بلگوارب وأگجوجت وبير أم اگرين والنعمة.. واختياره مرافقا عسكريا للرئيس المؤسس فعودته "إلى قواعده" والجهود التي بذلها في تكوين وتدريب الجيش في مؤسسات مختلفة تولى مقاليدها، ثم دور المؤسسة العسكرية في التخفيف من معاناة السكان جراء جفاف السبعينات.. ليصل إلى تفرغه لشأنه الشخصي والأسري الذي قطعته الإعارة إلى الحرس الوطني بعد شهور قليلة.

 

2. على خط النار

في هذا الباب تناول الرئيس الأسبق الشكوك التي حامت حوله وحول اثنين من زملائه الضباط (أحمدُ ولد عبد الله وولد علي انجاي) إبان حرب الصحراء الغربية، ولم يخف امتعاضه من الفترة التي قضاها ضابطا بقيادة الأركان "بين المدنيين" مكتوف اليدين؛ بينما زملاؤه يقاتلون على الخطوط الأمامية، وكيف انتقل إلى ميدان المعركة موضحا بلاءه فيها والجهات التي خدم بها والمعارك والمناوشات التي خاضها مع البوليساريو، وكبريات الأحداث التي جرت خلال تلك الفترة كهجومي "الجبهة" على العاصمة انواكشوط والزويرات وتشله.. وغيرها؛ متوقفا عند إنقاذه لمحمد ولد عبد القادر (كادير) وأحد رفيقيه من موت محقق؛ وهو إنجاز كوفئ بترقيته إلى رتبة مقدم.

وفي أتون الحرب المستعرة تزوج الرجل مدفوعا بغريزة حفظ النوع، بعد ما ظل يؤجل الزواج من قبل ريثما تتحسن ظروفه، ولكن الحرب أقنعته به توخيا للإنجاب؛ فالأعمار بيد الله.

 

3. الإنقاذ وخلافات المسعفين

في هذا الباب يشرح الرجل مراحل انقلاب العاشر من يوليو من التصور إلى التخطيط إلى التنفيذ، مبرزا دور الجناح المدني للانقلاب المذكور والارتباك الناشئ عن عدم تنفيذ الانقلاب في موعده المقرر (8 /7/ 1978) والشكوك التي تولدت عن ذلك وكيف أمكن تنفيذ الانقلاب بعد يومين من موعده المفترض؛ بمؤازرة غابرييل سينبير (جبريل ولد عبد الله فيما بعد) وآتيي همت.

حينها كان الرئيس هيداله قائدا للمنطقة العسكرية بتيرس زمور، وأوكل زملاؤه إليه تحييد الكتائب الموجودة هناك من الجيش المغربي؛ وبسهولة تمكن من عزلها ووضعها في حالة حصار بحكم الأمر الواقع، بدعوى حماية أفرادها من السكان المؤيدين للبوليساريو! قبل أن يلتحق بالانقلابيين ويستلم منصبه المتفق عليه سلفا (قيادة الأركان).

ويفصل الخلافات التي دبت بين اللجنة العسكرية للإنقاذ الوطني بعيد استيلائها على الحكم و"حرب الشائعات" والمساعي الرامية إلى "سرقة" العاشر من يوليو؛ سواء بتعين أعضاء من خارج الجماعة الأصلية أم عدم تقيد الرئيس ولد محمد السالك بما تم الاتفاق عليه من قبل، وتفرده بالسلطة حسب وصف الرئيس هيداله.  

كما يتحدث في هذا الباب عن تحول اللجنة العسكرية للإنقاذ الوطني إلى لجنة عسكرية للخلاص الوطني نتيجة صراع جناحيها وما أسفر عنه ذلك من تخلص من بعض الضباط وإقصائهم وصعود لنجم البعض الآخر كالعقيد محمد محمود ولد أحمد لولي الذي أصبح رئيسا –بصلاحيات محدودة- لمدة شهور، وكهيداله نفسه الذي أصبح رئيسا للوزراء بصلاحيات واسعة ثم رئيسا للدولة بصلاحيات كاملة.

 

4. معركة البناء بين أنقاض الحرب وزوابع الجفاف

في هذا الباب يتحدث الرجل عن مساعيه لإعادة بناء الدولة على أصعدة مختلفة كإعادة الإعمار وتقويم الاقتصاد وإصلاح قطاع الصيد وإنشاء جامعة انواكشوط (مسجلا فضل الأول لمحمد ولد سيدي عالي، وفضل الثانية ليحيى ولد منكوس) والسعي للحفاظ على الثروة الحيوانية والاستفادة منها، وما عرقل ذلك من جفاف ضرب البلاد، والعلاقات غير المثالية مع البنك الدولي، وما عرف بإصلاح التعليم 1979.

وعلى الصعيد الاجتماعي يسجل في هذا الباب إلغاء الرق وسن قانون الإصلاح العقاري وتطبيق الشريعة الإسلامية في مجال العقوبات، وتحويل العطلة الأسبوعية من الأحد إلى الجمعة.. معرجا على نهجه الدبلوماسي وما رأى أنه ساد خلال فترته من ندية في التعامل مع الدول الأخرى؛ مستعرضا العلاقات مع دول الجوار وغيرها من الدول العربية وسواها.

ويتوقف عند محاولة 16 من مارس 1981 الانقلابية وما تلاها من إعدام قادتها وحل حكومة ولد ابنيجاره المدنية الذي غذى حراكا داخليا بين أعضاء اللجنة العسكرية لتنحية ولد هيداله، بقيادة ولد محمد السالك وبحام ثم انضم إليهما ولد ابنيجاره.

ومن التطورات التي شهدتها تلك الفترة إنشاء ما سمي هياكل تهذيب الجماهير، وفي الحديث عنها يشدد على أنها ليست استنساخا للجان الثورية في ليبيا، وأن الدور المنوط بها لم يكن استخباريا وإنما كان اجتماعيا.. وهما معلومتان غير مشهورتين (خصوصا الأخيرة).

وفي الحديث عن علاقاته بالحركات السياسية يشير إلى أنه لم يكن للإسلاميين وجود كبير في فترة حكمه، كما أن نشاط حركة "الحر" وقتها كان ضئيلا؛ إذ اقتصر على أنشطة متقطعة تقوم بها "أخوك الحرطاني" ولعله أبرز هاتين النقطتين ردا على من يقول إن ما طبقه من الشريعة جاء استجابة للأولين وإن إلغاءه للرق وإصدار قانون الإصلاح العقاري جاء استجابة للأخرى.

ويروي في هذا الباب كيف كان معياره في الانفتاح على الحركات السياسية عدم ارتباطها بالخارج، ولذا ظلت علاقاته ودية مع "الكادحين" لأنه لم ير فيهم أكثر من "حركة وطنية" وهم بالمقابل أيدوا جميع قراراته وتوجهاته باستثناء تطبيق الشريعة الإسلامية.

 

5. وأد المشروع

في هذا الباب يتحدث الرئيس الأسبق عن المرحلة النهائية لحكمه، وعن نضج النشاط السري الذي بدأ منذ 1981 والتقارير المتناقضة بين الجناحين النشطين داخل جهاز الحكم في تلك الأيام؛ حيث كانت مجموعة بو اخريص ومولاي هاشم وغيرهما في حالة عداء شديد مع مجموعة معاويه ولد الطايع وآتيي همت وغيرهما، وكل منهما تتهم الأخرى في تقاريرها السرية بالسعي إلى الإطاحة بالنظام الحاكم. وفي هذا الجو المربك لم يعد الرئيس (هيداله) يثق في أي تقرير؛ وربما لو وثق لكانت ثقته في الناحية الخطأ، لأنه –حسبما جاء في الكتاب- لم يشك في معاوية لحظة، ولم يظهر هذا له إلا الإخلاص والولاء المطلق؛ بل إن المفوض دويدا حسن قدم له قبيل سفره إلى بوجمبوره (بوروندي) تقريرا عن انقلاب يوشك أن ينفذه معاوية وجناحه فرفض الأخذ بمضمونه نظرا للصراع المذكور.

ويروي في هذا الباب علمه بالانقلاب في برازفيل أثناء العودة من بوجمبوره وإصراره على العودة إلى البلاد رغم تدخلات القادة الأفارقة المتواصلة لثنيه عن ذلك، ورغم رفض الملاحين (وكانوا فرنسيين) الانقياد لأوامره في بعض المراحل، وكيف اعتقل في المطار ثم نفي إلى الداخل حيث أمضى أربع سنوات سجينا بين كيهيدي وتامشكط وما طبع ذلك من معاناة بدنية ونفسية كان نصيب الأسد منها لفترة كيهيدي، إذ علم بوفاة والده بعد عام ونصف العام؛ وهي المدة التي أمضاها في معتقله بكيهيدي دون أن يبصر أشعة الشمس! ولذا حين تقرر نقله إلى تامشكط وجد صعوبة في فتح عينيه صباحه الأول لتعودهما على ظلام الزنزانة.

وبعد عامين ونصف العام في تامشكط أفرج عنه ليعود إلى أسرته في "گزرة" توجنين ولكن الحفاوة التي لقيها ساءت الحكام الذين حظروا عليه سكن المدن وألزموه باختيار منفى داخلي لا يبتعد عنه أكثر من 30 كيلو مترا دون إشعارهم، وهو الوضع الذي دام ثلاث سنوات أُخَرَ ليصدر عفو عام أواخر سنة 1991 استفاد منه ضمن آخرين فيعود إلى العاصمة فور إعلانه دون استئذان، مُصِرًّا على رفض أوامر المفوض دداهي (مدير أمن الدولة حتى عهد قريب) بالعودة من حيث أتى.

كانت عودته إلى العاصمة في بداية التحول الذي شهدته دول شبه المنطقة، وكان حظ بلادنا منه الانتقال من الحكم العسكري السافر إلى الحكم العسكري المقنع.

يومها كانت قوى سياسية مختلفة المشارب تنشط للتخلص من العقيد معاوية عبر صناديق الاقتراع، وقد انضم الرئيس هيداله إلى قادة هذا النشاط الذين أسفرت جهودهم عن تشكيل جبهة fducساعيا إلى ترشيح المرحوم حمدي ولد مكناس إثر اتفاق مع قوى زنجية على تقديم مرشح من "أهل الساحل" قبل ترشح السيد أحمد ولد داداه الذي غير ترشحه الموازين والمواقف.

وتجري الحملة الانتخابية ثم الاقتراع ليتعرض مرشح المعارضة -الذي دخل الميدان دون ضمانات- لتزوير فاضح وتمييز وتحيز إداري سافرين؛ فمصمم اللعبة فصلها على مقاسه وسيرها لمصلحته، واحتاط لذلك إلى حد إنزال الدبابات لشوارع العاصمة في جوف الليل للتصرف بما يضمن بقاءه في الحكم إذا دعت الضرورة.

بعيد فرز النتائج كان رأي هيداله النزول إلى الشارع وتنظيم احتجاجات شعبية ولكن المترشح أحمد ولد داداه رفض القيام بما يخالف القانون. وبعد تنصيب معاوية رئيسا من جديد بمدة يسيرة غاب هيداله عن الواجهة؛ وهو ما فسره في الكتاب بأنه جاء ثمرة اتفاق بينه وبين ولد الطايع! ولكنه عاد بقوة إبان انتخابات 2003 حيث التفت حوله فئات ذات مشارب متباينة من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين مرورا بما بينهما ولم يخف امتعاضه من البعثيين (حلفائه الجدد) الذين قال إنهم اضطروه إلى تشكيل إدارة حملة موازية؛ عدا عن اختراق حملته من طرف استخبارات ولد الطايع. وبعد الفرز نال 18% باعتراف نظام خصمه الذي بدا منزعجا منه للغاية؛ لذلك اعتقل عشية الانتخاب في لعبة استخبارية روجت لها وسائل الإعلام النظامية دون إقناع. ولكن كان لا بد من إطلاق سراحه قبل الاقتراع من أجل إجراء الانتخابات بشكل "قانوني" وهو ما تم ريثما أدلى بصوته ليعاد اعتقاله في اليوم التالي، وبعد حوالي شهر صدر حكم بسجنه خمس سنوات مع وقف التنفيذ؛ وبحرمانه من حقوقه السياسية وهذا هو الأهم في نظر النظام، وكوفئ مديرو حملته بأحكام مشابهة.

بعد ذلك بسنة (2004) اعتقلت قيادات معارضة من بينها هيداله وأحمد ولد داداه وقدمت للمحاكمة مع فرسان التغيير -الذين اعتقلوا على مراحل- بقاعدة الدرك الوطني غرب وادي الناقة بدعوى علاقة بين الطرفين في غباء سياسي غير مسبوق أظهر النظام معزولا قد توحد ضده مختلف القوى الحية بعد انقلاب 2003 الفاشل بدل توريط الساسة؛ ولعل ولد الطايع استجاب لناصحيه بضرورة إخراج كل من يمكن إخراجه من هذا الملف؛ لذا برئ القادة السياسيون ومن ضمنهم هيداله.

6. الملاحق

في هذا الباب وردت ملحقات ذات قيمة تاريخية، تمثلت في المواثيق الدستورية الثلاثة التي سنتها الجنة العسكرية في طبعتيها (الإنقاذ والخلاص) وقائمة بأعضاء المجلس الاستشاري الذي شكله ولد محمد السالك وتسبب في الخلاف داخل اللجنة العسكرية، وثلاث إجابات على ثلاثة أسئلة في أول مؤتمر صحفي لهيداله بعد تبوئه رئاسة الوزراء في 31 من مايو 1979 وتعميمان حول الرق ورسالة استفتاء إلى فقهاء البلاد حول الشأن ذاته وملحقا بصور مختلفة لأناس بعضهم رحل عن عالمنا.

ملاحظات ختامية

1. جاء الكتاب متأخرا لدرجة أن محرره من مواليد حكم الرئيس هيداله؛ وهو ما يجعل القيام به جهدا مشكورا يلخصه المثل "أن تصل متأخرا خير من أن لا تأتي".

2. كان الرجل منصفا في عرضه لنقاط تقاطع فيها تاريخه وتاريخ خصومه ممن أطاح بهم ومن أطاحوا به ومن حاولوا ذلك ومن ناوأه.. بدرجات دون ذلك؛ حيث لم يتعرض لهم بقدح، وإنما بمدح (ومكانة المختار شجاعة كادير) أو بموضوعية في الغالب الأعم.

3. طبع الصدق والصراحة روايته للأحداث وعرض وجهات نظره في المواضيع المختلفة؛ وإن أبرز هذا الصدق من مفارقات من نماذجها:

أ. ذكر امتعاضه من الشك في ولائه لموريتانيا إبان حرب الصحراء الغربية (وله كل الحق في ذلك) ولكنه لم يخف مواقفه من البوليساريو بعد استلامه مقاليد الحكم؛ لدرجة أنه سرد مساعيه لصالح "الجمهورية الصحراوية" داخليا وخارجيا، وانعكاس بعض مواقفه من بعض الدول والحركات السياسية الموريتانية على مواقف هذه من القضية الصحراوية، بحيث بدا وكأن الشأن الموريتاني اختلط عليه بالشأن الصحراوي.

ب. يلاحظ القارئ بوضوح الصورة النمطية التي ينظر بها بعض الضباط إلى المدنيين -والتي لا تخلو من دونية- في حديث الرجل عن التخطيط للإطاحة بالرئيس ولد داداه؛ حيث لم يتخلص من تلك النظرة هو وبعض زملائه حتى وهم يسعون لاحتلال المناصب المدنية!

ج. عزا الفضل في بعض قراراته إلى من أشار بها أو تولى تنفيذها، واعترف بالندم على قرارين رغم أن الظاهر لي صواب أحدهما (رفض اعتماد يهودي سفيرا للولايات المتحدة ببلادنا) ولكن لا أذكر أنه ألقى باللائمة على أحد من أعوانه.

4. يشاع أن الوازع الجهوي كان قويا لدى قادة انقلاب العاشر من يوليو؛ وهو ما لا تفنده ومضات هنا وهناك في هذا الكتاب.. كالسعي للتقليل ما أمكن من تمثيل ولاية الترارزه والمواطنين الزنوج في المجلس الاستشاري الذي لم ير النور جراء مقاطعة هؤلاء له، وكاتهام بعض قادة الانقلاب لهيداله بالسعي لإعادة ولد داداه بالتعاون مع "أهل الگبله" حين عين المرحومين أحمد سالم ولد سيدي وأحمد لد منيه في بعض المناصب العسكرية العادية؛ رغم بعد موقعيهما عن العاصمة! وكالاتفاق –في فترة لاحقة- مع بعض القياديين الزنوج على مرشح منحدر من منطقة "الساحل".. إلى غير ذلك.

5. سلط الكتاب الضوء على مواطن كثيرة ظللها الغموض من تاريخ البلاد وتاريخ هيداله نفسه؛ حيث لم تكن علاقاته بولد الطايع على وتيرة واحدة، وإنما تذبذبت من الجفاء إلى الموالاة (1992- 2003) إلى الجفاء مرة أخرى. ولكنه بالمقابل مر مرورا خاطفا على حادث طائرة المرحوم أحمد ولد بوسيف، وهو حادث ما زال يلفه الغموض حتى الآن.

6. بعض المعلومات المسوقة في الكتاب بحاجة إلى تدقيق، كالحديث عن إعانات "عراق صدام حسين" لنظام المختار ولد داداه؛ رغم أن رئيس العراق آنها كان أحمد حسن البكر! (استمر في الحكم من 17 /7/ 1968 إلى 16/ 7/ 1979) وبعضها بحاجة إلى تمحيص وموازنة كموقف المختار ابن داداه من التعاون مع اللجنة العسكرية؛ حيث ورد هنا قبوله المشروط للعب دور المستشار، بينما ورد في مذكرات المختار أنه رد على طلب هيداله بأنه لا يمكن أن يكون عونا لمن "سرقوا" منه الحكم، وإن كان يتمنى لهم التوفيق لأن فشلهم ينعكس سلبا على الوطن والمواطن.

7. تميز إخراج الكتاب بالبساطة، كما جاء تصميمه في حجم مناسب، وبتحرير جيد؛ ولا غرو فقد انتدبت له الوكالة الأستاذ المختار ولد محمد نافع (أو "ولد ابلول" كما كنا نسميه في طفولته، أيام الدراسة على أستاذنا الوالد رحمه الله) وقد بذل المحرر جهدا طيبا في التعريف بما ورد في الكتاب من الأعلام البشرية وغيرها، والحوادث، وإيضاح ما قد لا يتضح للقارئ العادي؛ سواء بمراجعة الرئيس هيداله ومناقشته واستيضاحه (كما يتضح من سياق الكتاب) أو بالبحث عنها في مظانها.. رغم بعض الملاحظات البسيطة التي يسهل تداركها في الطبعة التالية من قبيل:

أ. كثرة الأخطاء المطبعية نسبيا، وعدم سلامة بعض التراكيب والمفردات؛ وهي أمور تبدو جلية في العمل الجيد، لأن الاهتمام به والتركيز عليه أقوى من نقيضه.

ب. إدراج بعض تعليقات الرجل في إحالات بالهامش. ولعل الصواب تحريرها بحيث توضع ضمن كلامه بالمتن، وتقتصر الهوامش على تعليقات المحرر وإيضاحاته.

والكتاب -رغم صغر حجمه مقارنة مع موضوعه- بقعة ضوء على تلافيف فترة مهمة من تاريخ بلادنا، وجهد مشكور أتمنى للقائمين عليه قبول صالح العمل والتوفيق للاستمرار فيه.

16. ديسمبر 2012 - 16:37

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا