كيف يمكن لفت نظر سلطاتنا إلى ما تعانيه بيئتنا؟(3) / التراد سيدي

لقد رأينا جزئا مما كانت عليه طبيعة بلدنا وبعض ماتعرضت له في الحلقتين الأولى التي ركزت على شريط أقصى الجنوب من أرض الوطن الذي مايزال يقاوم التصحر الذي يضغط قادما من الشمال مهددا باكتساح آخر لمناطق الجنوب.
ورأينا كيف كان الوضع في بدايات القرن الماضى وكيف جرت عملية العبث بالطبيعة نباتات وحيوانات وفي هذه الحلقة سنعطي بعض الأمثلة لما كان عليه الوضع وبعض قصص العبث بالنباتات والحيوانات البرية وأنواع المخلوقات وسنطرح أسئلة حول البحث عما يمكن عمله.
إن الذي تعرضت له بيئتنا يستحق دراسة علمية منهجية شاملة لكل جوانب الموضوع ولمختلف المؤثرات المباشرة وغير المباشرة ولعدم تمكننا من استيفاء شروط ومتطلبات هذه الدراسة فسنورد ما أمكن إيراده عن الحالة وتطوراتها وما استطعنا إدراكه مما كان عليه الحال وماذا جرى لنصل إلى الحالة التي وصلنا إليها.
لقد ادركني الوعي من بداية خمسينات القرن العشرين وكنت مع أهلي في البادية التي تقع بين تمبدغه في الحوض الشرقي والعيون في الحوض الغربي فقد أدركت أنه برغم استمرار التقتيل للحيوانات والطيور طيلة النصف الأول من القرن العشرين فقد رأيت أن تواجد الغزلان بأصنافها في المناطق التي فيها مضارب خيامنا يشبه تواجد الأغنام المملوكة لدى سكان تلك السهول فكنا نرى تجمعات ضخمة تملأ السهل وأذكر أن والدي وكان يملك بندقية صيد حديثة صناعة روسية تم ترخيص استجلابها من فرنسا وكانت لكل الأسر المتميزة رجال متخصصون بالصيد يصطادون لهم ما يحتاجوا إليه من الطرائد وكان صيادنا قد اصطاد غزالا كبيرا من ذلك النوع المعروف (بالدام )جمعه دميان وجاء الوالد فرآ الغزال فقال له أفسدت طلقة بندقيتي في غزال واحد؟ فقال الصياد لقد ضربت ثلاثة غزلان لكن إثنان تحاملوا على جراحهما ولم نتمكن من اللحاق بهما فقال له لا تفعلها مرة أخرى لاتفسد طلقاتي في غزال واحد وهذا يوضح كثرتهم وهناك أمثلة كثيرة تدل على كثرة الوحوش في كل المناطق وفي منطقة الظهر مثلث النعمة ولاته و باسكنو استمرت الوحوش والنعام إلى وقت قريب حتى السبعينات من القرن الماضي وكان في منطقتنا بين العيون وتمبدغه وجغن رجال صيادون كثيرون أفنوا آلاف الوحوش البرية ولهم قصص في ذلك مؤلمة جدا لأنصار الطبيعة أمثالي أذكر بعضها ففي سنة ١٩٦٧ ذهب من عندنا رجل كان من عادته السنوية الذهاب مع أحد الصيادين المهرة وكانوا يذهبون مدة شهر ويأتوا بالكثير من اللحوم المقددة والزيوت المصنوعة من شحم النعام والحبارى لكنه في هذه المرة رجع إلينا بعد أيام قليلة فسألناه لماذا لم يتأخر كعادته ؟ فقال ذهبنا من تنبدغة وكنا نقصد شمال النعمة ومنطقة ولاتة لكننا في اليوم الثاني بتنا شمال النعمة وفي الصباح وقبل طلوع الشمس رأينا العشرات من الظباء تمر قربنا فقام الصياد وكانت لديه بندقية ( مزير) فقام بقتل العشرات دون أن يتحول عن فراشه ولم يبقى لنا إلا الزيوت ( الزهم) فقمنا بقتل نعامتين ورجعنا.
مثال آخر في سنة ١٩٨٤ كنت مسجونا في ودان وجاء إلي ضابط الصف بيدال وكان في وحدة عسكرية كانت في ودان ذلك الوقت وحكى لي أنه كان في وحدة عسكرية كانت تعمل على الجمال في منطقة النعمة ( يقولون لها صنغت الغودة) و ذكر أن قائدها الذي أصبح في ما بعد له شأن كبير قتل من النعام حتى ملأ برميلين من نوع ٢٠٠ ليتر من( الزهم) زيوت شحم النعام وأرسلها إلى انواذيبو! وقال إن اللحم بقى ملقى على رؤوس الأشجار في تلك المناطق!!!
ومثال ثالث كان أحد الرجال المشهورين بالصيد والقنص في تمبدغة في رحلة صيد سنوية منهاإلى منطقة شرق النعمة وفي الطريق وكانوا في قيلولة وهو يريد تهيئة نفسه لوقت الصلاة أخذ ماءً لطهارته واصطحب بندقيته وأثناء جلوسه لقضاء شأنه جاءه جمع كثير من النعام معهم كثير من فراخهم فأخذ بندقيته بالوضع الذي هو فيه وأخذ يضرب يمينا وشمالا حتى بقيت الفراخ لاتعرف أين تذهب تأتيه باحثة عن أمان فيه وعن أمهاتها التي قضي عليها دون رحمة!!!
إن القصص والأمثلة المفزعة حول الطريقة التي أفنينا بها ثرواتنا البرية ومثلها الأمثلة والقصص الغريبة عن أساليبنا الغريبة في تجريد أراضينا من أشجارها وغطائها النباتي كلها تظهر قدرة الإنسان على الإفساد إذا لم يردعه رادع من دين أو خلق ( والخلق هنا الوعي).
ولقد كانت أعداد الدجاج البري الجميل في مختلف مناطق الوطن وفي الحوضين بالشكل الذي لا يمكن تصور انقراضها لقد كانت متكيفة ومنتشرة في كل المناطق ويمكن استمرار الاستفادة منها والتمتع بلحومها اللذيذة دون إبادتها فهي تنتج أعدادا كثيرة من الفراخ سنويا وتعيش في كل المناطق إلا أن الأسلوب الذي أتبع معها كفيل بالقضاء عليها مهما كان عددها وحجم ازديادها لقد كان مايجري لهذا الطير الجميل من تقتيل كفيل بما وقع له حيث انقرض كما انقرضت باقي الأنواع الكثيرة التي كانت معه كلها
ولقد سافرت سنة ٢٠٠١ من نواكشوط إلى بامكو ولم أرى في طول الطريق إلا ثلاث دجاجات برية في وسط مالي ولم أرى أي حيوان بري في طول هذه الطريق التي مرت بمناطق كانت قبل سنوات تعج بمختلف الوحوش والطيور البرية المتنوعة ولقد كانت الوحوش آكلة اللحوم كثيرة جدا طيلة ثلثي سنوات القرن العشرين وإن كانت الأسود قد اختفت بعد النصف الأول من القرن العشرين حيث سجل آخر الأحداث المعروفة عن تواجد ملك الغابة في منطقتنا فقد تم قتل الأسد الذي قتل انجبنان بن امحميد و الذي قتله أحمدو بن المختار بن محمييد في الأربعينات من القرن العشرين في غرب تنبدغة وقبل ذلك قتل محمد المختار بن أحمدو بن امحيميد
أسدا عند اقريج ساقية ماء ٦٠ كيلومتر غرب تمبدغه وقبل الاستقلال بسنتين ١٩٥٨ قتل الأسود جِمالا غرب جغني أما الدببة والذئاب والنمور فكانت كثيرة جدا إلى وقت قريب وقد تعاون الجفاف والبنادق على إفناء هذه العينات وغيرها كثير. وفي أوائل الستينات نشطت تجارة جلود التماسيح وكان يعيش في مناطقنا المختلفة كميات هائلة من هذه المخلوقات المسالمة وفي زمن قليل تم القضاء على آخر تمساح في مختلف الغابات والسواقي الوطنية وإذا كان يوجد من هذا المخلوق شيء الآن فقليل جدا ولم يسلم الخنزير البري الذي كان كثيرا جدا وقد اشترك في الحملة ضده بعض الإخوة الخليجيين الذين لا يحرمون لحومه كما هو الحال عندنا و قد رخصت الحكومات المختلفة الصيد للإخوة الخليجيين فكان لهم دورهم في القضاء على جزء من حيواناتنا البرية.
لقد تضافرت جهودنا المخربة لبيئتنا شجرا وحيوانات مع سنوات الجفاف التي بدأت تشتد ابتداءا من ١٩٦٨ فتم القضاء على بيئة كانت تتمتع بجمال وغنى قل نظيره وتتمتع بأنواع النبات وأنواع الحيوانات والطيور الجميلة حتى أصبحنا نعيش أرضا غير أرضنا وبيئة غير بيئتنا لايتوفر فيها من مقومات الحياة إلا أقلها ولايوجد فيها من حيواناتها إلا الحيوانات الداجنة الأبقار والأغنام والإبل والخيل والحمير ولا تتوفر لهذه الحيونات شروط حياة مُطمئِنةوفي وضع يطرح أكثر من تساؤل حول مالعمل؟ كيف نستطيع العيش في هذه الظروف ؟ وكيف نستطيع توقيف التدهور ؟وكيف يمكن بدء العلاج؟ هذه أسئلة سنحاول الرد عليها في المقال التالي إن شاء الله....يتبع

16. يوليو 2020 - 17:11

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا