شهدت موريتانيا تحولات كبيرة منذ استقلالها تمثلت في البداية في الثورة التي قادتها حركة الكادحين في نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي والتي أحيت في نفوس الشباب الأمل والتطلع إلى غد أفضل وتجسدت نتائج تلك الحركة في تأميم شركة «ميفارما» MIFERMA لاستغلال منجم الحديد في مدينة أزويرات وإنشاء عملة وطنية كان لهما الأثر البالغ في استقلال البلاد اقتصاديا.
وجاءت حركة العساكر إثر الانقلاب الذي أطاح بنظام المختار ولد داداه سنة 1978 حاملة معها همَّ إنقاذ البلد من ويلات وتداعيات حرب الصحراء كما كانت تعرف يومها.
لكن الآمال الكبيرة التي عقدت على حركة الإنقاذ العسكرية تلاشت، فبخضم صراعات مريرة بين قيادات هذه الحركة، والتي اختلفت ما بين خلافات آيديولوجية ومطامع شخصية، أفرزت حالة من التوتر السياسي في البلد نتجت عنه تصفيات داخلية على مستوى مجموعة الضباط الحاكمة التي كانت أهم مظاهرها الاستقالة والتقاعد المبكر والتصفية الجسدية ومحاولات الانقلاب المتكررة ، فكان أن اعتلى سدة الحكم أربعة رؤساء خلال ست سنوات من هذه الحقبة، أي ما يعادل سنة ونصف السنة كفارق زمني بينهم على التوالي وهي فترة تؤكد عمق المأزق الذي وصلت إليه البلاد في تلك الفترة من عمر دولة الاستقلال وما اكتنفها من غياب الرؤية السياسية وتفاقم الأوضاع الاقتصادية مخلفة وراءها إرثا ثقيلا على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي .
فعرفت معظم مؤسسات الدولة وشركاتها عجزا في ميزانياتها وتراجعا واضحا في أدائها، وتبرز الشركة الوطنية للمناجم (اسنيم) كمثال حي لما وصل إليه حال الشركات العامة يومها، وتفاقمت الأوضاع المعيشية والسكنية فأضحى وجه العاصمة نواكشوط مشوها بمظاهر الكبات التي اصبحت ملجأ لمعظم سكان العاصمة حيث تنعدم كل مقومات الحياة من ماء وكهرباء ومستشفيات وطرق، وعمت الإضرابات جميع مؤسسات التعليم مطالبة بتصحيح أوضاع البلد، وامتلأت السجون بخيرة شباب هذا البلد من دون أي أفق سياسي يلوح في الأفق، وهنا بدا جليا لكل متتبعي الساحة السياسية أن النظام فقد قدرته على أي عطاء سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي وأصبح يراوح مكانه.
في ظل هذه الأوضاع المتردية جاء انقلاب 12 ـ 12 ـ 1984 بقيادة معاوية ولد سيد احمد ولد طائع الذي اعتبره الكثير منقذا، ففتح السجون ووعد بمحاربة الرشوة والمحسوبية والقبلية وتحسين أوضاع البلد. وتم تنظيم أول انتخابات بلدية باقتراع مباشر، بعد سنة من وصوله إلى الحكم، على مستوى البلديات الحضرية.
وبالرغم من انعدام وسائل البلديات ونقص الخبرات اللازمة لتسييرها، وهو ما ساهم إلى حد كبير في تشويه هذه التجربة الأولى في مجال الديمقراطية التي عرفتها البلاد بعد استقلالها، إلا أنها بدت درسا أوليا في مجال التنافس الحر واختيار مرشحين على أساس البرامج التي أخذت رتبة ثانوية بالمقارنة مع المركز الاجتماعي والتاريخي للمترشح وخصوصا على مستوى الداخل حيث ما زالت الأعراف والتقاليد هي السائدة.
إلا أن البلد سرعان ما دخل في دوامة المحاولات الانقلابية وزعزعة الأمن الداخلي حيث جاءت محاولات ضباط البعثيين و الزنوج خلال عامي 1987 و 1988 لتعيد البلاد إلى دوامة العنف و عدم الاستقرار وقد أذكى نار هذه الأحداث تطبيق قانون الإصلاح العقاري لسنة 1983 و خصوصا على مستوى أراضي ضفة النهر.
وجاءت أحداث 1989 إثر الخلافات الحادة مع الجارة الجنوبية (السينغال) والتي كادت أن تعصف باستقرار البلد ووحدته لولا الحكمة التي تم بها علاج تلك الأزمة التي أتذكر جيدا يوم سئل عنها الرئيس الراحل سنغور فأجاب :«إنهم شعبان محكوم عليهما بالتعايش تربط بينهما أواصر العرق والثقافة والدين والحضارة».
وهكذا لعب عامل الزمن في التقارب من جديد بين شعبين لم يفصل بينهما إلا نهر ظل عبر الزمن جسرا للتواصل وشاهدا على قوة الروابط بين شعبين يجمعهما أكثر مما يفرقهما، ولكن التطرف القومي لدى كلا الجانبين والاستعمار أرادا أن يسبحا ضد تيار وحدة الشعبين فأثبتت الأيام خطأ تصورهم وأبت مياه النهر إلا أن تعود إلى مجراها الطبيعي.
وجاءت أحداث احتلال العراق للكويت وحرب الخليج الثانية وتداعياتها على بلدنا باعتباره من دول الضد لتجعل منه كبش فداء نتيجة لموقف مبدئي، فبدأ يدفع ثمن ذلك الموقف على صعيد علاقاته مع الحزام الغني في العالم العربي وكذلك على المستوى الدولي، فكانت يومها نداءات الديمقراطية تجتاح الدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية إثر النداء الذي وجهه الرئيس الفرنسي ميتران (François mitteran) والذي اشترط فيه تدفق المساعدات الاقتصادية بالتوجه الديمقراطي.
فكان دستور 1991 الذي نص على الحريات العامة وإنشاء الأحزاب وإقامة المؤسسات الديمقراطية وإنشاء الصحافة الحرة بداية عهد جديد كرس واقع الانتخابات وحرية الرأي فنشأت عشرات الأحزاب والجرائد ومئات الجمعيات المتخصصة في مختلف الميادين، ويومها كان هناك مشككون من الطبقة السياسية والمثقفة في جدوى الديمقراطية في بلد فقير وشعب لا يجد معظمه قوته اليومي وهي التي قال عنها الرئيس الفرنسي بومبيدو(Pompido) في الستينيات من القرن الماضي :«إن الديمقراطية هي ترف الحضارة الغربية».
لكن هذا المسلسل الديمقراطي أسهم في الكثير من الإيجابيات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
* تشكل رأي عام أسهمت فيه الصحافة الحرة على قصر تجربتها وقلة وسائلها.
* وجود معارضة أسهمت إلى حد كبير في تشجيع النظام على الالتزام ببرامجه الانتخابية، ما وفر مناخا لتنمية البلاد وازدهارها.
* قيام مؤسسات برلمانية لم تؤد الدور المنوط من اقتراح للقوانين وتشريع لها وذلك ناتج عن طبيعة التركيبة البرلمانية ونقص الوعي والخبرة لدى من تم انتخابهم لهذه المهمة.
* إقامة مجتمع مدني من عُمَد وصحفيين وبرلمانيين كان لهم دور فعال في إقناع العالم الحر بأننا خطونا الخطوة الأولى على الطريق المؤدي إلى الحرية والديمقراطية.
* محاولة جادة لإصلاح الحالة المدنية توجت بإجراء إحصاء إداري وإنشاء بطاقة للتعريف غير قابلة للتزوير.
إلا أن لهذه التجربة المهمة كبواتها، فقد ولدت في ظل ظروف محلية وإقليمية ودولية صعبة، وكانت أول عقبة واجهتها هي معضلة معارضة حصلت في كل دورة انتخابية على نسبة تتجاوز الثلاثين في المائة، لم يفلح النظام في التعاطي معها بشكل إيجابي يسمح بإشراكها في تسيير الشأن العام من أجل المساهمة في إقامة شراكة فعلية لبناء هذا الوطن، فظلت المعارضة تتبنى كل المواقف التي من شأنها إدانة النظام واستغلال كل شاردة وواردة من أجل إرهاق النظام غير عابئين بضرورة صيانة هذا المكسب وتطويره، وكان الطابع العام لتعاطي النظام مع المعارضة هو حديث طرشان مما أدخل البلاد في أزمات كان أبرزها العلاقات مع إسرائيل التي احتمى بها النظام من تداعيات ملف العبودية والمبعدين إثر أحداث 1989 والاعتقالات المتكررة للإسلاميين ورفض منحهم حق إنشاء الإحزاب السياسية، ما دفع بعضهم إلى سلوك طريق العنف وتداعيات أحداث 11 سبتمبر 2001 والتي اعتبرت فيها مورتانيا حقلا تجريبيا للقضاء على المؤسسات الخيرية الإسلامية والمعاهد الإسلامية والمناهج الدينية والسيطرة على المنابر وتوجيهها .
كل ذلك مهد لأحداث 8 و 9 يونيو 2003 التي عملت على تشتيت المخزون الانتخابي للنظام وأسهم في توضيح الفجوة الكبيرة بين ولد الطائع ونظامه.
ولم يتعاف النظام من تداعيات ذلك الحدث وبدا وكأنه لم يستوعب الدرس وظن أنه مجرد ثورة ضباط أرادوا تحسين أوضاعهم المعيشية التي ساءت نتيجة ارتفاع الأسعار وسوء التسيير.. لقد كان ذلك جزءا من المشكلة لكنه لم يكن المحرك الرئيسي.
لقد كرر النظام في بداية سنة 2005 نفس الأخطاء التي ارتكبها سنة 2003 وذلك من خلال الاعتقالات الواسعة في صفوف الإسلاميين من مختلف الأعمار والمشارب والتضييق على كل مظاهر التدين مع غض الطرف عن كل الفساد الخلقي والإداري، وجاءت أحداث «لمغيطي» لتعيد إلى الذاكرة حرب الصحراء وما ترتب عنها من انهيار مقومات الدولة يومها.. وتكررت نفس أحداث 8 و 9 يونيو 2003 مع الفارق في النجاح هذه المرة، وهذه هي النتيجة التي كان يخافها كل الحريصين على المضي قدما في المسلسل الديمقراطي وإقامة دولة مبنية على أسس حضارية تسمح بالتناوب السلمي على السلطة وترسيخ مفهوم المواطنة بعيدا عن كل اعتبارات طائفية أو عرقية أو جهوية.
لقد جاء هؤلاء الضباط في ظل مناخ دولي لا يسمح بإقامة الأنظمة الشمولية والاستثنائية، في وقت شعرت فيه القوة العظمى أن كل الضرر الذي أصابها كان من فعل وتأثير دعمها لأنظمة ديكتاتورية في المنطقة العربية، ولذلك سعت إلى إقامة نظام جديد في الشرق الأوسط من أولوياته دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
في ظل هذه الظروف الدولية المعادية للانقلابات جاء انقلاب 3 اغسطس بوعود الديمقراطية والعدالة وهي وعود جميلة ومهمة إذ تجاوزت مجرد الوعود وأصبحت واقعا معاشا، فنحن شعب له تجارب مرة مع هذه الوعود، فقد قال الرئيس السابق معاوية في إحدى زياراته لمدينة اكجوجت :«إذا لم يكن باستطاعتي أن أقسم العيش بين الناس فإن باستطاعتي أن أقسم العدالة بينهم كما يقسم الهواء» لكن هذا الوعد بقي كلاما في الهواء واتسعت دائرة الظلم والفساد.
إن تحديد الفترة الاستثنائية وإقامة حوار جاد مع جميع الفعاليات السياسية من أحزاب ونقابات وجمعيات يشكل المنطلق الأساسي لأي عمل جاد على هذا الطريق، وهذا ما تم حتى الآن، لكن الزمن وحده والأيام المقبلة هي الكفيلة بمعرفة الحقيقة، فهل سنشهد تغييرا فعليا على مستوى الممارسة بشكل يضمن حياد الإدارة وعدم استخدام الوسائل العامة في التأثير على مجرى اللعبة، والسماح بالشفافية ؟ أم أن الأمور ستدار بطريقة «الريموت» (Remote) وبطريقة جديدة تدخل البلاد أيضا في منعطفات التزوير والتحايل على الشأن العام وممارسة الضغوط باستخدام مراكز القوة.
إذا كنا فعلا نريد الديمقراطية والعدالة فلا بد أن نسمح لكل أصحاب البرامج والأفكار بممارسة حرية التعبير والتجمع وتكوين الأحزاب والترشح من دون مضايقات، بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معهم في البرامج والآيديولوجيات اياً كانوا، شيوعيين أو إسلاميين، من دون إقصاء أو تهميش لأي كان، هذه هي الديمقراطية أو لا تكون، تسمح بمشاركة الجميع في اتخاذ القرارالسياسي الذي ينعكس إيجابا أو سلبا على حياة المواطنين .
إن أي إقصاء لأصحاب الرأي أو تهميش أو حرمان من الحصول على حقوقهم العامة يعتبر خروجا على قواعد الديمقراطية والعدالة المنشودة فهذه حقوق وليست منة من أحد.
إن موريتانيا هي دولة الجميع، معارضة ونظاما، وعلى الجميع أن يشارك في صنع القرار السياسي الذي تترتب عليه لقمة عيشه ومستقبله وإلا فإننا سنكرر نفس الأخطاء السابقة ونجعل البلد في دوامة من عدم الاستقرار الناتج عن الغبن والظلم، وكما يقال :«إن دولة الظلم ساعة ودولة العدل إلى يوم القيامة».
إن هناك ظلما مستشريا في الإدارة ما زال قائما ولم يتم التطرق إليه ولا معالجته بشكل يضمن للجميع الحصول على حقوقهم وصلاحياتهم، فما زال المسؤول الأول هو صاحب الكلمة الأولى في قطاعه، وهو المرجع وليس القانون، ونحن نتمنى على إدارتنا أن تحترم القانون وأن تتجاوز المحسوبية والرشوة والقبلية إلى إدارة لوطن تحترم فيه حقوق العمالة والمواطنة بعيدا عن كل اعتبارات أخرى قد تسيء للموظف والمواطن وقبلهم الوطن.