شاع بين الناس القول المأثور: الانسان حيوان ضاحك، ولا شك أن الضحك حالة يختص بها الانسان عن سائر المخلوقات. ولم تخل أمة من الأمم من تراث ساخر تناقلته الأجيال جيلا بعد جيل. ويشتمل التراثُ العربي على العديد من الكتب التي تناولت الفكاهة وما تداوله الناسُ فيما بينَهم من قصص يتندَّرونَ بها وتظهرُ جوانب حياتِهم الاجتماعية في قالب ساخِر. وقد ألف الإمام ابن الجوزي المتوفى عام 597 هجرية كتابه " أخبار الحمقى والمغفلين". ولربما كان ذلك الرافد يجد منبعه فيما تناقلته الأجيال من أقوال لبعض الصحابة والتابعين في موضوع الفكاهة. ومن تلك الأقوال المأثورة قول أبي الدرداء: "إني لأستجم نفسي ببعض الباطل كراهية أن أحمل عليها من الحق ما يكلها"، ومنها أن عليا بن أبي طالب كان يقول: "روحوا القلوب واطلبوا لها طرف الحكمة فإنها تمل كما تمل الأبدان" وعن حماد بن سلمة أنه كان يقول: "لا يحب المُلح إلا ذكران الرجال ولا يكرهها إلا مؤنثهم". لكن السخرية قد تتحول إلى استهزاء بحمل الأقوال والأفعال على الهزل واللعب، لا على الجد والحقيقة، فعندها تنتقل السخرية إلى التكذيب وقلب الحقائق وتشويهها. وهذه أمور نهى عنها الشرع الحكيم.
وقد تلقى الناس وباء كورونا بالكثير من التشكيك والسخرية وظهر ذلك جليا في النكت والقصص المضحكة التي عجت بها وسائل التواصل الاجتماعي. ولم يسلم مجتمع من المجتمعات من ظاهرة السخرية والتنكيت والاستهزاء بهذا الوباء. ولئن كانت هذه الظاهرة مستساغة في بداية انتشار الوباء وقبل استفحاله، فإن تنامي ظاهرة السخرية من هذه الجائحة مع مرور الزمن واستشراء الوباء وحصده مئات آلاف الأرواح يعد أمرا محيرا، ويدعو للتفكير في الأسباب الكامنة وراء استمرار رواج النكت والقصص الساخرة من كل ما له علاقة بهذا المرض العضال. لقد تجاوز الأمر الحد عندما طالت السخرية كل شيء بما في ذلك الإجراءات التي أقرتها الحكومات للتعامل مع هذا الوباء من إرشادات، وتعليمات وقائية. ومعلوم بالضرورة أن كل تلك الإجراءات التي أقرتها الدول وتبنتها منظمة الصحة العالمية تدخل في صميم ما أقره ديننا الحنيف قبل 1400 عام . فأما تغطية الأنف والفم عند العطاس أو السعال فقد ورد في كتب الحديث أن رسول الله ﷺ كَانَ إِذَا عَطَسَ، غَطَّى وَجهه بيده أَو بثوبِهِ، وغض بِها صوته وأما الحجر الصحي ومنع السفر فقد قال صلى الله عليه وسلم: " إذا سمعتم به (يعني الطاعون) بِأَرض فَلَا تقدموا عليه، وإذا وقع بِأَرْض وَأنتم بِهَا فَلَا تخرجوا فرارا منه". فما السر وراء تهاون الناس بالجائحة وعدم مراعاتهم للإجراءات الوقائية ؟ وما سبب انتشار السخرية والتنكيت بالتزامن مع انتشار بل واستشراء وباء كورونا؟
يرى العديد من المفكرين وخبراء علم الاجتماع أن للسخرية تأثيرا على أمزجة الناس وأنها في زمن الأزمات والأوضاع الاستثنائية تأتي نتيجة للضغوط النفسية الناتجة عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والأمنية غير المرضية. وقد تحمل النكتة أبعادا ودلالات مختلفة ولعل أبرزها تشخيص أمزجة الناس وسبر أغوار نفسياتهم. فالنكتة تعتبر لجس نبض الشارع حيال قرار أو إجراء أو توجه حكومي رسمي لقياس تأثيره أو لمعرفة مدى تقبله أو رفضه. أما في المجتمعات التي لا تتمتع بقدر كبير من حرية التعبير، فتلقى النكتة السياسية رواجا كبيرا لأنها وليدة الكبت والاستبداد. وغالبا ما تتغافل الأنظمة الاستبدادية عن تلك الحالة لأن فيها نوعا من تنفيس الضغط وتخفيف الكبت وصرف الناس عن ممارسة السياسة المباشرة.
وبحسب رأي الدكتور أحمد أبو أسعد أستاذ الإرشاد النفسي والتربوي بجامعة مؤتة فإن الناس تلجأ إلى السخرية لتخفيف الضغط وكوسيلة للتعامل مع الحدث. أما الدكتورة سيلفيان بارت- ليبرج Sylviane Barthe-Liberge أخصائية علم النفس السريري والطبيبة النفسانية فترى أن النكتة هي في الأساس نوع من الانتقاد لوضعية أو شخص معين لكن بطريقة تشويهية فهي بهذا المعنى شكل من أشكال الازدراء. هذا ويرى خبراء آخرون أن انتشار السخرية هو مؤشر على عدم ثقة المواطنين في حكومتهم وأن علاج هذه الوضعية يكون بالتزام الحكومة بالشفافية والصراحة والوضوح مع المواطنين ومع وسائل الاعلام.
لكن تحولا كبيرا حصل في ميدان السخرية والتنكيت منذ انتشار وباء كورونا وما سببه من تغير في نمط حياة الناس. لقد تحولت النكتة إلى أسلوب من أساليب التعبير الاجتماعي حيث يتخذها الكثير من الناس لتسجيل مواقفهم السياسية والاجتماعية حيال وضع معين. فتحولت النكتة إلى وسيلة للنقد بأسلوب ساخر يزدري الخصم ويشكك في حسن نيته ويحاول التنقيص منه. والجديد في الأمر أن ضرورة توحيد الجهود لمكافحة الوباء في الدول التي اجتاحتها المرض قد فرضت نوعا من الهدنة بين الفرقاء السياسيين التقليديين، فظهر فرقاء من السياسيين الجدد الذين يتخذون من وسائل التواصل منبرا ومن السخرية أسلوبا في التعبير عن آراءهم وهواجسهم. إنها ظاهرة اجتماعية جديرة بالاهتمام لأن أصحابها في الغالب ليسوا معارضين تقليديين بل قد يكونوا من الموالين لكن الضغط الناتج عن الظروف الاستثنائية يولد طاقة عاطفية قوية خاصة عند أصحاب الوعي المتقد من ذوي الكفاءات والخبرات. وفي غياب آليات لامتصاص تلك الطاقة وتحويلها إلى قوة موجبة تفاديا للضغط الذي قد يولد الانفجار فإنها تتحول تلقائيا إلى طاقات سالبة في قالب من السخرية والتنكيت والازدراء. هؤلاء قد يصدق فيهم قول الشاعر:
إذا لم يكن للمرء في دولة امرئٍ ... نصيبٌ ولا حظٌ تمنى زوالها
وما ذاك من بُغضٍ له غير أنه ... يُرجّي سِواها فهو يهوى انتقالها