لا يسعى هذا العمل لتأسيس رأي جامع مانع لعناصر الإصلاح والانجازات والتحولات النوعية التي شهدها قطاع التعليم العالي في هذه السنوات الخمس الأخيرة من عمره، بوصفه قطاعا فتيا مازال يتلمس طرق وقواعد الممارسة السليمة في التعامل مع الثالوث (الأستاذ/ الطالب/ المنهج)، مقارنة مع منظومات التعليم العالي العريقة في هذا المجال، وذلك نتيجة لفارق الوسائل المادية والتربوية، لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله. فرغم كل الجهود التي بذلتها الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال لإصلاح قطاع التعليم بجميع مراحله فلم يم فصل قطاع التعليم العالي خاصة عن محتضنيه من القطاعات الاخرى، فبدأ مصلحة ثم تارة إدارة عامة ومرة وزارة لكنها لا تمتلك القدرات المادية والفنية للخروج من عباءة الوصاية، مما يضمن استيعاب كل الشباب الموريتاني في منظومة تعليم عال متكاملة من تعليم وتكوين وبحث طبقا للمعايير والنظم الدولية وقابلة للمنافسة.
لقد تميزت السنوات الأخيرة بتزايد أعداد حملة البكالوريا مما شكل ضغطا كبيرا على مؤسسات التعليم العالي التي لم تكن جاهزة من حيث السعة وحتى من حيث الطاقم التربوي والتأطيري، هذه الوضعية أدت إلى تخرج أعداد من حملة الشهادات العليا من ذوي الاختصاصات الأدبية في مجملها على حساب ذوي الاختصاصات العلمية والفنية، غير مهيأة لولوج سوق العمل المحلي مما نتج عنه اكتظاظ السوق بالعاطلين عن العمل، ولم تكن لدى القطاع خطة مصاحبة لإعادة تأهيل حملة هذه التخصصات سبيلا لدمجهم ، كما كان لضعف استخدام اللغات دوره الأساسي أيضا .
هذه الوضعية الحرجة ايضا من ضمن أمور أخرى في وجود جامعتين برئيسين ومجلسي إدارة وطواقم في حيز جغرافي واحد ويفصل بينهما جدار، ولا يتعدى مجموع طلابهما بضع ألاف، وثلاث مدارس ب 333 طالبا وبضعة خريجين، أما على مستوى المصادر البشرية فلم يكن اكتتاب الأساتذة يستجيب لأبسط شروط ومعايير الموضوعية ولا يعبر عن الحاجيات الحقيقية لمؤسسات التعليم العالي ويتم في ظروف مشبوهة ويعتريها النقص والخلل البينين كما كانت الترقيات بين الأسلاك والدرجات مضطربة ولا ضابط لها.
وكان التعامل مع نظام الليصانص الماستر والدكتوراه فاقدا لأبسط أسسه التي لا يستقيم عوده من دونها. لقد كشف التشخيص حجم الاختلافات فاظهر أن الطالب يقضي من عمره مثلا، ( 18 عشرة سنة يمضيها بين القاعات الجامعية من اجل الحصول على الليصانص ) .
ولوضع حد لكل هذه العيوب ولتحديد مكامن الضعف قام القطاع بالتعاون مع المعهد الدولي للتخطيط التربوي بتشخيص شامل وموضوعي لوضعية مؤسسات التعليم العالي وهيئات التأطير الإداري والتربوي ومسارات الطلاب والمناهج وخلص إلى نتائج تم عرضها في جميع المؤسسات وأمام جميع المهتمين والمتخصصين.
مكنت تلك المشاورات والنقاشات من وضع استراتيجية لتطوير القطاع مبنية على معطيات دقيقة، فأخذت عوامل الإصلاح طريقها سالكة، فتغير المشهد وتم ضخ دماء جديدة أبانت عن رؤية وبصيرة تجسدت في دمج الجامعتين وجمع شتات المدارس وفرض احترام المعايير التربوية لنظام الليصانص الماستر والدكتوراه وتم العمل على كافة المحاور الناظمة القطاع. فتمت رقمنة وتحصين عملية توجيه الطلاب وكل ما يتعلق بذلك من احترام للسن القانوني وشروط الحصول على الباكالوريا، وتحسين عملية اكتتاب الأساتذة وترقيتهم كما تم تحسين المناهج وتنويع عروض التكوين وتأسيس وحدات البحث.
وفي الإطار المؤسسي أنشئت المعاهد والمراكز ومدارس المهندسين التي أصبحت تنافس كبريات المدارس في فرنسا والمغرب وتونس، بل التفوق أحيانا وكانت نتائج مسابقات دخول مدارس الإحصاء الدولية خير برهان على نجاعة المسار.
وفي إطار الانفتاح على لغة العلم والتكنولوجيا والتواصل مع نخب المجتمعات تم إنشاء المعهد العالي للإنجليزية بأساتذة أجانب والذي أصبح يوفر تكوينا متميزا ويعطي شهادة معتمدة من طرف جامعة كمبردج البريطانية، كما تم إنشاء الوكالة الوطنية لضمان الجودة وكذلك الوكالة الموريتانية للبحث العلمي للعمل على تنفيذ استراتيجية البحث العلمي المحددة من طرف المجلس الأعلى للبحث العلمي برئاسة معالي الوزير الأول.
والحقيقة أن القطاع شهد في الفترة الأخيرة بقيادة الدكتور سيدي ولد سالم إصلاحا شاملا تميز فيه بالكثير من الجدية والصرامة مما جعله يحقق نجاحات باهرة في جوانب أساسية ولا يزال الكثير من التحديات ماثلا، كما لا يزال الرجل قادرا على المزيد من العطاء. وما كان ذلك ليتأتى لو الدعم الذي حظي به القطاع من طرف الحكومة فغير مكانته وارتفع به الى مستوى المنافسة والمشاركة الإيجابية.