اليوم الأخير / أحمد عبد السلام

كانت ليلة طويلة. لم يتمكن خلالها أبو فخر من النوم . لقد شعر بآلام في المفاصل و تعب شديد  .

يشكو أبو فخر منذ سنوات من مشاكل صحية جعلته يتناول يوميا أقراصا تخفف من آثارها الجانبية و قد نصحه الطبيب الأخصائي بتوخي الحذر و عدم مزاولة الأعمال التي يتطلب إنجازها وقتا طويلا متواصلا. 

لا تتوفر دائما  لدى أبي فخر  إمكانيات لشراء الدواء من الصيدليات و قد يضطر في بعض الأحيان إلى تركه لعدة أيام حتى يحصل على ثمنه و هذا هو حاله الآن، فقد مضت عليه ثلاثة أيام دون أن يتناوله، و هذا ما أثر سلبا على صحته.

يعمل أبو فخر في إدارة عامة و قد وصلته منذ شهرين رسالة تشعره بأن "اسمه سيشطب عليه في نهاية شهر سبتمبر من لوائح موظفي و وكلاء الدولة". 

لم يرد في هذه الرسالة أي عبارة شكر للموظف و لا أي  تثمين لفترة خمس و ثلاثين سنة خدم فيها وطنه و أبلى فيها شبابه من أجله . 

قرأ أبو فخر الرسالة و احتفظ بها في حقيبة تحمل رزما كبيرة من الشهادات و الإفادات و تقارير التقويم التي تعبر عن أهم محطات دراسته الأكاديمية  و  المهنية  و عن تجربته الطويلة.

لم يبال أبو فخر بأسلوب الرسالة، فقد سبق ان كلمه متقاعدون سابقون عن فحوى هذه الرسائل.

تمكن أبو فخر، بعد عدة محاولات من الوقوف، فتوضأ و صلى ثم أيقظ أهله. يجب أن يتهيأ الأطفال للذهاب إلى الإعدادية التي تبعد عدة كيلومترات عن المنزل و يتطلب الوصول إليها  ثمن تذكرة سيارة الأجرة ذهابا و إيابا ولا يملك أبو فخر المبلغ الكافي لذلك. ذهب إلى الدكان المجاور و بين لصاحبه حاجته في المبلغ الذي  يؤمن له و لأطفاله  تذكرة سيارة الأجرة في ذلك اليوم. تفهم التاجر  ، كعادته، الوضعية و سلمه المبلغ بعد أن أخبره بمستوى الديون المستحقة عليه و قد زاد مستواها في هذا الشهر عن ما كان عليه  في الشهر الماضي. شكر أبو فخر التاجر و عاد إلى بيته.

بعد مغادرة الأطفال البيت إلى المدرسة، خرج أبو فخر متعبا متجها إلى مقر عمله. إنه اليوم الأخير في الوظيفة ، و قد كلفه،  بالأمس ، مديره بإعداد تقارير  مستعجلة و لا يريد ان يغادر الوظيفة قبل إنجازها.

وصل أبو فخر متأخرا بسبب عطل أصاب التكسي التي تنقله فوجد المدير في انتظاره. فالتقارير لها طابع استعجالي و أبو فخر وحده هو القادر بحكم  استعداده و تجربته على إعدادها في هذه الفترة الزمنية الوجيزة.

لم يذكر أبو فخر لمديره ما يعانيه من آلام و لم يخبره بنفاد  دوائه منذ ثلاثة أيام، فلقد تعود على الاستغناء عن ما عند الآخرين كما أن تجربته أظهرت له عدم مبالاة أغلب  المسؤولين بمشاكل معاونيهم.

تحمل أبو فخر الآلام و أنجز المهمة  قبل نهاية وقت الدوام ثم سلمها لمديره و ودعه. غادر المدير المكتب مسرعا بغية تسليم التقارير إلى الجهات المعنية.

نظر أبو فخر من حوله فلم ير أحدا . كانت المكاتب و الممرات خالية. ففهم أن الموظفين و العمال غادروا الإدارة قبل نهاية وقت الدوام.

ترك أبو فخر  المكان و توجه إلى بيته و قد تضاعف مستوى الآلام التي يشعر بها. لقد كان هذا اليوم ، بالنسبة له،  كسائر الأيام السابقة. لقد تعود طيلة مسيرته المهنية على تحمل أعباء العمل الذي يفرض عليه غالبا البقاء في المكاتب حتى وقت متأخر من النهار.

لم يتوقع أبو فخر ان ينظم له حفل وداع و لا مراسيم تكريم. كان همه الوحيد أن يكمل فترة عمله حتى لحظة التقاعد، و قد ظفر بما تمناه.

عندما ركب في التكسي، في رحلة العودة إلى المنزل، تذكر تلك الأيام التي بدأ فيها مشواره المهني. كان شابا قويا يرى امامه مستقبلا زاهرا يضمن له العيش الكريم طيلة فترة العمل و بعدها. كان -كما زال- يؤمن بضرورة البذل و العطاء في سبيل الوطن. 

تراءت أمام عينيه جميع المحطات . ابتسم لرؤيتها و هي تمر أمامه في شريط الذكريات فغمره الشعور بالفخر لاكتمال المسار في عز و شرف...

لم يفكر و هو في هذه الوضعية الصحية في توقيف الراتب الزهيد أصلا و لا في مستوى المعاشات الهزيل التي سيبدا في الحصول عليها بعد ستة أشهر، فكل هذا لا يهمه . فقد فهم  منذ فترة ان الوظيفة استنزفت قواه و ستتخلص منه عندما  يحل -و إلى الأبد - الضعف محل القوة.

نزل من التكسي عند المحطة الأخيرة و واصل الرحلة سيرا على الأقدام حتى وصل إلى المنزل فاستقبله الأطفال بفرح شديد. إنه الأب الحنون الذي  يداعبهم و يسهر على دراستهم و حسن تربيتهم.

بعد صلاة العشاء، شعر أبو فخر بالنعاس و اختفت فجأة الآلام التي كان يشعر بها فاضطجع على فراشه المتواضع و لم يستيقظ في الصباح. لقد اسلم أبو فخر الروح إلى بارئها.

دفن أبو فخر في صباح ذلك اليوم الذي كان يفترض فيه أن يكون اليوم الأول الذي يبدأ فيه الاستفادة   من حقه في التقاعد و ترك  وراءه أسرة فقيرة و أطفالا ما زالوا في مرحلة مبكرة من مراحل الدراسة. لم ترث أفراد  الأسرة منه مالا - فأبو فخر لم يترك رصيدا في حسابه المصرفي الذي فتحه قبل خمس و ثلاثين سنة  و لم يبن في حياته دورا و لم يملك سيارة و لا قطيعا من الحيوان- و لكنهم ورثوا منه القناعة و التفاني في العمل و التضحية من أجل الوطن .

        رحم الله أبا فخر

و حفظ موريتانيا

17. يوليو 2020 - 12:43

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا