إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً / د.سالم فال ابحيده

تتزاحم الأحداث منذ أسابيع وتزداد التساؤلات والحيرة من مستقبل ظن الكثيرون أنه بدأ يأخذ طريق الإصلاح أو على الأقل ذلك ما كانوا يرجوه، فبالرغم من إسناد العديد من الوزارات والمؤسسات العمومية لأشخاص أقل ما يوصفون به أنهم سفهاء في التسيير والتدبير، إلا أن من يأمل خيرا في الوضع القائم كان يرجوا أن يكون ذلك كله ناتج عن ترتيب ما لتعميق التنظيف وتعميمه، غير أن ما حدث في إدارة الميزانية والمحكمة العليا وكارثة البنك المركزي التي لا يعلم تبعاته إلا الله، وغيرها من الأحداث الكبيرة والمتلاحقة إضافة لعدم تجاوب البعض مع لجنة التحقيق البرلمانية، أو حتى التنمر عليها ومحاولة مصادرة حقها في التحقيق، كل هذه الأحداث وغيرها حجبت كثيرا من فسحة الأمل الآخذة في الانحسار..، وبما أن هذه الوقائع بيد القضاء الآن أو لا تزال في طور التحقيق البرلماني، فإني واحتراما للسلطتين سأترك الحديث عنها لحين انتهاء تلك المساطر المعروفة.

كانت الأشهر الماضية مدعاة للكثير من التجاذب والانتظار، ومنطلقا للعديد من النظريات والسيناريوهات المتباينة والمتعارضة أحيانا، وكانت الأحداث في مجملها داعية للشك على الأقل، في ما كان الأمل في كثير منه منعقد في شخص رأس الدولة، انطلاقا من تجربته المهنية و ثقة في تهيئته الاجتماعية، وبعيدا عن شخصنة الأمور والتزلف أو التحامل فإني أود أن أشير وبوضوح إلى أن سياسة التغاضي والمجاملة والصبر على فشل البعض وتخبطه، كلفت البلد الكثير وضيقت سبيل الإصلاح وباعدت بين المجتمع وتحقيقه، فلا يخفى على أحد أهمية انتقاء فريق العمل واختباره، ثم وضع الثقة فيه وإحكام مراقبته وكل ذلك بحزم وعزم راسخين، ولنا في تاريخنا عبرة وعظة فقد كان يحي بن خالد البرمكي وزيرا للخليفة العباسي المهدي، ثم وزيرا لولده من بعده موسى الهادي، ورغم ذلك ساند هارون الرشيد أيام ولايته للعهد ودعمه في وجه أخيه موسى الهادي وكان عائقا في خلع الرشيد من ولاية العهد رغم مبايعة كبار قادة الجيش وبعض أمراء بني العباس لجعفر بن موسى الهادي وليا للعهد، وبعد تولية هارون الرشيد عَرف ليحي بن خالد وبنيه حسن صنيعهم له، ومكنهم من تسيير شؤون الدولة حتى كان يحي بن خالد يحاجج هارون الرشيد في ما سينفقه على أهله وقصره؛ فاستأثروا بالمال والمناصب ومنعوا وأعطوا وولوا و غلبوا على الأمر دونه، وكل هذا حدث بالتدريج وبرضا الخليفة مجاملة وحرجا وربما ثقة في غير محلها، واستمر سلطانهم باسمه منذ توليه: 170 حتى187 هجرية  أي 17 سنة من حكمه البالغ 23 عاما، حتى صاروا فيها كالسرطان في الجسد لا ينفع معه إلا القطع؛ فاستأصلهم هارون الرشيد بعد حلمه الطويل عليهم، وأعلن ألا أمان لمن آواهم فصادر الأموال وسجن وقتل بعد أن ظلموا وتجبروا وزرعوا العداوة بين وليي عهده الأمين والمأمون فلم يكد الخليفة يدفن حتى شب بينهما الخلاف والحروب التي أدت لقتل الأخ أخاه..

أما أمير المؤمنين مروان بن محمد بن مروان فقد واجه أوضاعا أكثر عصفا وتقلبا وأشد أثرا ونتيجة، فقد تولى الخلافة إثر حروب ماحقة داخل بيت أحفاد عمه عبد الملك بن مروان، ودون الدخول في تفاصيل تلك الحروب التي كانت سببا في نهاية دولة بني أمية فإنما يهمني هنا بالتحديد هو؛ التنبيه إلى عدم حزم مروان بن محمد، واعتماده على رجال من سبقه وكثرة نكوصهم عنه وتقلبهم في دعمه وحربه حسب الأحوال والأوضاع، ومن ذلك أنه أنقذ  ثابت بن نعيم الجذامي من سيف هشام بن عبد الملك لجرم قام به فاستوهبه منه وقربه أيام ولايته لأرمينيا ففعل المنكرات وعفا عنه، وبعد مقتل الخليفة الوليد بن يزيد ورجوع مروان بن محمد إلى الشام لأخذ الثأر له أفسد عليه جنده وأغراهم بتركه فوافق الكثير منهم، وتصافوا للحرب وإثر انتصار مروان قام بحبس ثابت بن نعيم ثم عفا عنه، ثم راسل ثابت بني عمه اليمانيين بحمص وتدمر وطالبهم بخلع مروان ففعلوا، ثم بعد تولى مروان الحُكم ولى ثابت فلسطين فدعا أهله إليه وأعلن خلع مروان بن محمد فحاربه ثم قتله واليه بعد ذلك، ومثله فعل سليمان بن هشام بن عبد الملك بعد أن أسره مروان في حربه ضد بني عمه ورافقه في تنقلاته وكان يترك جندا معه، فقالوا له أنه أرضى عندهم من مروان فخلع مروان ودعا لنفسه بالخلافة، وفي طريق مروان لملاقاة سليمان مر بحصن به بعض رجاله وأهله فاتفق معهم بعد تضييقه عليهم على ألا يتعرضوا لمن معه، فلما ارتحل صاروا يشنون الغارة على مؤخرة جيشه، وكثر في عهده الخروج عليه ومهادنته لحين القوة، هذا بالرغم من شدته في الحروب وبسالته فيها وانتصاراته الكثيرة على خصومه خاصة انتصاراته المشهودة على الخوارج في معاركهم المتلاحقة في: العراق والجزيرة والحجاز وغيرها، إلا أن عدم حزمه وعفوه الكثير والمتكرر عن من غدر به أنهك جيشه وشتت تدبيره وأغرى فيه خصومه، مما مكن دعاة بني العباس من السيطرة على دولة بني أمية بيسر وإزالتها.   

ويحكى أنه جلس يوماً وقد أحيط به وعلى رأسه خادم له قائم، فقال لبعض من يخاطبه: ألا ترى ما نحن فيه؟ لهفي على أيد ما ذُكرت، ونعم ما شُكرت، ودولة ما نُصرت، فقال الخادم: يا أمير المؤمنين! من ترك القليل حتى يكثُر، والصغير حتى يكبُر، والخفي حتى يظهُر، وأخر فعل اليوم لغد، حل به أكثر من هذا، فقال مروان: هذا القول أشد عليَّ من فقد الخلافة.

هذا وأنا على يقين من أن ما هو مقدر آت؛ وأن الحذر لا ينجي من القدر، وأن مع العسر يسرا، وأن المحبة تستتبع التأسي، وأن نية الخير تقتضي فعله، وأن الفساد ملة واحدة وأن المفسدين أمة دون الناس.

20. يوليو 2020 - 10:22

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا