لايمكن تقديم تعريف شامل متفق عليه من الباحثين لظاهرة القبيلة نظرا لتشعب الميكانيزمات التي تحكمها وأختلاف نوعية التماسك بين مكوناتها .
وعموما ، يمكن القول إن القبيلة هي" مجموعة لها مجال ترابي تعتبره ملكًا جماعيًا لها وتستغل موارده بناء علي الإنتماء المشترك في الأصل لأفرادها الذين يتضامنون في الدفاع عن ذلك المجال.
ويستند التنظيم القبلي عموما إلي العصبية التي وصفها إبن خلدون بأنها الوحدة الأساسية لأي كيان إجتماعي يذوب الفرد فيه مشيرًا أن غايتها الطبيعية هي الوصول إلي الملك الذي هو أساس العمران. وبغض النظر عن هذه الأطروحات ومآلاتها الفكرية والفلسفية ، فإن الدولة تظل بحاجة إلي عصبية أعم وأشمل من العصبية الخلدونية لأن مفهوم المواطنة الذي نؤمن به اليوم يعمل علي تكوين عصبية ذات صبغة شمولية من مختلف الأجناس والأعراق. وفي هذا السياق، فإنه لا يمكن أن ننكر الدور البارز للقبيلة من منظور مساهمتها في مجال التضامن الإجتماعي عبر التسهيلات التي تقدمها لمنتسبيها من خلال التكفل بالعلاج و التوظيف و توفير المساعدة المالية عند الضرورة.و لهذا فإن الإعتزاز بالقبيلة ظل واضحًا في تصورات الأفراد والجماعات، وهي اليوم حاضرة بقوة في المشهد العام كنظام رمزي محدد وموجه للقيم والتصورات والممارسات رغم تلاشيها كمؤسسة تنظيمية. فهل تنجح السياسات الحكومية في ظل الرؤية الإصلاحية لرئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني في حسم إستبدال الأساس العرقي والقبلي بخيار الولاء للدولة ومؤسساتها؟ وكيف يمكن الإنتقال من سجل القبيلة إلي محورية الدولة؟.
إذن قبل تناول هذه الإشكاليات الجوهرية بمزيد من التحليل لابد من التذكير بأن الإدارة الإستعمارية في سعيها لتقويض النظام القبلي عملت علي تفكيك علاقات التبعية وأضعفت إلي حد كبير من سلطة رئيس القبيلة وقسمت هذه الأخيرة إلى أفخاذ ( fractions) ومجموعات عشائرية( sous fractions ) ، وحصرت المهام الموكلة إلى رؤساء القبائل والأفخاذ والمجموعات العشائرية في تنفيذ أوامر سلطات الإستعمار والحفاظ علي السكينة والأمن العام . كما طبقت سياسة إنتقائية لإختيار أعوانها من الزعامات التقليدية من خلال تنصيبها لجماعات أعيان القبائل التي أسندت إليها هذه المهمة . ومع كل ذلك فقد أتسمت العلاقة بين القبيلة ودولة الإستعمار بالكثير من المد والجزر ، حيث كانت تناصبها العداء و تخضعها لقانون السيبة أحيانًا وتوظفها أحيانًا أخري لتحقيق مآربها السياسية. لقدأدت هذه المعيارية في التعامل مع الكيانات القبلية والتعاطي مع شؤونها العامة المنتهجة من طرف المستعمر وأعوانه إلي نظرة سلبية عدائية لمفهوم الدولة ومايتعلق بها ، تحولت للأسف إلي موقف ثابت في العقلية الجماعية لأغلب الموريتانيين حتي بعد رحيل الإستعمار عن البلاد وحصولها علي إستقلالها الوطني.وقد تميزت هذه المرحلة الحاسمة من تأسيس الدولة الوطنية بالتركيز علي ترسيخ مفهوم الدولة الجامعة علي حساب الولاءات والإنتماءات القبلية والفئوية الضيقة وإرساء دعائم دولة القانون وتقوية أجهزة الدولة المركزية. وعلي الرغم من تنامي الوعي الشعبي وقناعة الجميع خلال بداية الستينات بأهمية تحقيق الولاء للدولة الوليدة ،فإن ذلك لم يمنع من إنتشار القبلية التي كانت حاضرة في الخطاب السياسي عبر المطالبات المتكررة للزعمات التقليدية بالتمثيل السياسي علي أساس القبيلة و التركيز علي وضع أشخاص بعينهم في دوائر القرار السياسي دون مراعاة للكفاءة والخبرة. لقد أثرت هذه الوضعية التي إستمرت مع الأنظمة المتعاقبة
سلبًا علي تجذير الوعي بالديموقراطية التعددية التي هي الحل الوحيد الضامن للحقوق السياسية في الدولة المدنية لأن التصويت في الإنتخابات يكون في الغالب الأعم لفائدة ولد القبيلة أو إبن الشريحة أو لأبناء العمومة وليس لبرنامج الحزب أو خطه الإديولوجي وهو ما يجعل الممارسة السياسية غير متحررة من ظلال القبيلة .
ومن أجل تجاوز هذه الإشكاليات اليوم بعد مرور ما يزيد علي نصف قرن علي إستقلال البلاد و إنقضاء ما يقارب السنة من مأمورية رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني الذي يعلق عليه الموريتانيون آمالًا جسيمة في إسترجاع هيبة الدولة والمحافظة علي مقدراتها وصون كرامة مواطنيها والتحسين من أحوالهم ، فإننا نري أنه من الضروري التركيز علي مايلي:
-التأكيد علي قوة الدولة الجامعة التي تحمي الجميع و تمارس سلطة الردع علي كل من تسول له نفسه التطاول علي الرموز السيادية و المساس بالثوابت الوطنية،
- العمل علي تغيير عقليات المواطنين بضرورة حثهم علي الوعي بدولة المواطنة التي تضمن تنمية البلد أقتصاديا و أجتماعيا وسياسيًا ،
- تطوير أساليب العمل الديموقراطي وصون الحريات الفردية والجماعية وإخضاع الجميع لقوانين المساواة والعدالة الإجتماعية،
- إشغال المجتمع بالتنمية والعلم بإعتبارهما أفضل الحلول التي تزيد من قوة الدولة ، لأن الفرد عندما يصبح أكثر قابلية للإنتاج فسوف يدرك تمامًا أن الحاجة إلي الدولة هي التي تعطيه فرص حياة أفضل، وأن قوتها هي إنعكاس لقوة سلطاتها ،
- تدعيم الفصل بين السلطات والضرب بيد من حديد علي الفساد مهما كان مصدره، و تعزيز نزاهة و إ ستقلالية و فعالية الجهاز القضائي ،
- جعل الوظائف الإدارية والفنية بالدولة خارج المحاصصة السياسية مراعاة لمتطلبات التنمية الوطنية الشاملة وإسنادها لأصحاب الخبرات والتجربة التراكمية في المجالات المطلوبة .
والخلاصة أنه من أجل الإنتصار لدولة الديموقراطية والحق والقانون ، فإنه يكون لزاما علينا أن نساهم كل من موقعه مساهمة فعالة من أجل الحد من الأثار السلبية للقبلية والجهوية والطائفية والفئوية التي تقف عائقا أمام تقدم الدولة الموريتانية الحديثة وتحولها إلي المؤسسية و المدنية، في وقت يحدونا فيه الأمل أن هذه الأمراض التي تولدت من سياقاتها التاريخية ربما تنتج يومًا ما علاجاتها الذاتية.