تنتعش قوة القبيلة حين ترتفع البطالة و تتراجع التنمية و يعم الفساد و لا يكون تمدد نفوذ القبيلة فى الغالب ظاهرة صحية طبيعية بل انها دليل دامغ على ضعف الدولة و هشاشة المؤسسات و غياب القانون و انتشار الزبونية و ضعف نسب الوعي العام .
حاول القانون الموريتاني منذو تأسيس الدولة الحديثة القضاء على الظاهرة و إن كانت تلك المحاولة خجولة و ضعيفة للغاية لا يعززها ظاهريا سوى الإنتشار المحدود للمؤسسات العمومية من مدارس و مستشفيات و هيائات قرض زراعى لدعم الزراعة و الإستقرار فى الجنوب ، مع شيئ يسير من القانون يحتكم إليه الأفراد عند التنازع و رفع الشكاوى و المظالم و كانت كلها محاولات جادة فى سبيل ترسيخ مفهوم الدولة من جهة و سحب فكرة الإنتماء للقبيلة وستأصالها كليا من رأس ذالك الإنسان البدوى العصي على المدنية من جهة أخرى .
لكن القبلية ظلت تترسخ على حساب الدولة مع كل نظام سياسي جديد وخاصة مع انقلاب 1984 حيث بدد هذا النظام موارد الشعب من اجل تحسين صورته ، وخلقت اقطاب للتنمية على اساس قبيلى دون مراعات للتوازن فى النمو بين الحاجيات الضرورية لكل ولاية جاءت التعيينات على اساس قبلى بهدف جلب الطبقة الأرستقراطية ، وهو ماأدى إلى تضخم الفوارق الإجتماعية وحدوث فجوة حادة فى النمو ، و منذو تلك الفترة و الأنظمة الحاكمة تخادع وتراوغ و تستغبي سكان هذه البلاد من شرقها لغربها تتظاهر فى الظاهر الأمر بشيئ يحاكى فى شكله العام الدول المتقدمة و المسؤولة بينما تتعامل فى السر بمنطق آخر ، تفشى هذا السلوك هذا السلوك لدرجة لم يخف معها عن عامة الناس مع كل محاولات الإستبطان و الظهور بثوب مخالف ، لأنه كما قال زهير ابن أبي سلمى الذى غادر عالمنا قبل أكثر من أربعة عشر قرنا .
- مهما تكن عند امرء من خليقة ••• و لو خالها تخفى على الناس تعلم .
فستوعب الجميع اللعبة وانتشرت اصوات غير مبالية من كل المقاطعات و المراكز والبلديات تطالب بتعيين نخبها و إشراكها فى الكعكة ، إدراكا منها ووعيا أن ابسط الطرق و أيسرها لفك العزلة او حفر بئر او بناء مدرسة او الحصول على مركزى صحي لتلقى العلاجات الأولية هو بكل بساطة ان يكون لهذ التجمع شيخ نافذ أو موظف سامى قريب من دوائر صنع القرار ،
هذا السلوك الشاذ المؤسف المقلق قتل فى العامة روح الوطنية وزرع الأنانية و الشوفونية ، ووجه انظار الناس اسبوعيا الى مراقبة الإجراءات الخصوصية عند كل اجتماع لمجلس الوزراء لعله يحمل بشائر خير بتعيين احد ابناء قريتهم و تبعا لذالك أهملوا كل مراسيم الإتفاقيات ورخص التنقيب و الإستغلال التى تمنحها الحكومة للشرائك الأجنبية رغم انها شديدة الخطورة و بالغة الأهمية على الأمد البعيد والمتوسط و القريب بل انها قد تحدد مستوى رفاههم الإقتصادى و المعيشي مستقبلا كما اهملوا كل القروض الموقعة مع المؤسسات الدولية .
إن التقاعس المستمر و التغافل الممنهج الذى جعل حلول الأزمات المتفاقمة و تشخيصها و معالجتها بيد شيخ القبيلة لا بيد السلطة قوض من اسس الدولة و افقدها الثقة و الإحترام فالجيش و القوانين و حدهما لايكفيان لوجود الدولة بل لابد من وجود آخر محسوس ينعكس ايجابا على المواطن البسيط من تشغيل ،و رعاية اجتماعية ، وقروض ميسرة ، وخدمات فى مختلف نواحى الحياة .
ترشيد الموارد بالإستبداد و الظلم و طمس المطالب العامة للناس و تأميم الإعلام الرسمى و تكميم الأفواه ، و تحريك القبلية و العنصرية بين المكونات الإجتماعية للفت انظار الرأي العام عن القضايا الكبرى ، منهج سلبي للأسف دأبت عليه جل الدول المتخلفة فى عالمنا اليوم إن لم نقل كلها فكان ذالك سبابا فى تشويه مفهوم الدولة فى ذهن المواطن العادى .
و بالمقابل كشف العنصريون عن وقاحتهم وخبث نواياهم فى ضرب اللحمة بين الفئات كما وجدت المليشيات و حركات تمردة فضاءا آمنا للحركة والظهور كنتيجة حتمية للضعف الدولة .
الصورة الأكثر تعبيرا و دلالة لما قدمنا بين سلطة الدولة و سلطة الإجتماعية للقبيلة ماثلة أمامنا فى السودان ، عندما جند نظام عمر البشير القبائل العربية البدوية ضد القبائل الأفريقية الريفية في إقليم دارفور.
قوة الجنجويد قامت بواجب الدولة وحمايتها من تمرد عسكري، ولكنها لم تلتزم بالدستور والقوانين ، فأعملت السلب والنهب والاغتصاب والإحراق، في سلوك همجي أوصل حاكم البلاد فى النهاية المطاف الى مرتكبا للجرائم حرب مطالب فى محكمة الجنايات الدولية بلاهاي و الآن تجرى محاكمته حاليا فى بلده دون ان تضح بعد معالم خاتمته السيئة كما يبدو .
و فى الصومال تستمر الصراعات القبيلة بعد انهيار الدولة و عجزها عن ادارة عادلة للموارد و هو ما أدى الى انتشار مجاعة و قحط كان السلاح و سيلة فيه لعبور التحدى و البقاء على قيد الحياة و لاتزال القبائل المتناحرة فيه اليوم تشكل خطرا محدقا بالدولة المركزية فى مقديشو .
ولعل اليمن المثال الأكثر بؤسا، فالقبيلة لم تصمد أمام استبداد " علي عبدالله صالح " ، ولم تمنع غزو الحوثي، وشاهدنا كيف دمروا بيت الشيخ "" عبدالله بن حسين الأحمر "" الذي كان شيخ "حاشد"، أكبر قبائل اليمن، وما أقاموا وزنا لقبيلةٍ ولا لحزب. كان من المفروض أن يحمي اليمن جيش الدولة، لا قبيلة حاشد ولا غيرها. في النهاية، نجح صالح في تحويل اليمن إلى مليشيات قبلية، ونمَى النزعات الطائفية والجهوية. واليوم يستمر التحالف السعودي الإماراتي بالنهج نفسه، وبشكل أسوأ. يشتري ولاءات قبائل، ويكون مليشيات قبلية ومناطقية على حساب الجيش الوطني.
اذن لا مخرج لموريتانيا و لمختلف دول القارة الإفريقية و العالم العربي من المأزق التاريخي الذي يعيشون فيه إلا بالعودة إلى منطق الدولة، قوة قوية فوق الجميع على أساس الدستور والقانون والعدالة والمساواة، ذالك لأن استخدام القبيلة سياسيا فى كل نازلة هو خروج عن الطريق القويم السوي و عودة إلى مرحلة ما قبل الإسلام، وليس ما قبل الاستعمار حين كانت هي مركز الحل و العقد .
اما الآن فقد دقت ساعة الحسم و آن الأوان ان نأمن كأفراد بوجود الدولة و ان نحترم قوانينها و نصون مؤسساتها العامة و نقف للنشيد و العلم الذى يوحدنا جميعا بقدسية و نضباط و بالمقابل ، آن الأوان للدولة ان تخرج من الوجود بالقوة الى الوجود بالفعل فتطبق القوانين بحذافرها فى المفسد و العنصرى و الإرهابى و تتحمل مسؤولياتها كاملة فى نشر العدل و الأمن و محاربة البطالة و الرشوة و الزبونية و بذالك السولك يقطع كل نظام سياسي الطريق امام الفتن الخارجية و تضمحل شيئا فشيئا النزعة الفردية الاجتماعية المشككة فى قوة الدولة .