حول أهمية استشارة المحكمة العليا لحسم الجدل القانوني بشأن الاختصاص في محاكمة الرؤساء السابقين ومفهوم الخيانة العظمى
كان للنقاش الدائر حول مفهوم الخيانة العظمى وطبيعة لجنة التحقيق البرلمانية والاختصاص في محاكمة الرئيس السابق أن يختتم بخلاصات المقال الرائق الذي سبر فيه أستاذ القانون والخبير القانوني محمد محمود ولد محمد صالح كافة أغوار الموضوع، وبين مواطن الغموض وأسبابه على ضوء القانون الموريتاني والقانون المقارن، ورجح الرأي الأقرب إلى إرادة واضعي الدستور ومصلحة العدالة؛ ثم انتهي بالتأكيد على ضرورة التوجه إلى المحكمة العليا لتقول الكلمة الأخيرة بشأن الاختصاص في محاكمة الرؤساء السابقين. وقد أنار كذلك الأستاذ لو كورمو عبدول معالم هذا الموضوع من خلال مداخلاته المقروءة والمسموعة المتداولة على وسائل الإعلام. غير أن الدكتور ولد محمد صالح فتح نافذة جديدة للنقاش تؤكد إدراكه بأن النقاش القانوني لا يجوز أن يغلق من زاوية إلا ليفتح من زوايا أخرى؛ تتعلق بآلية اللجوء إلى المحكمة العليا. وهي مناسبة رأيت أن أنتهزها لتسليط بعض الضوء على أهمية إحياء سنة اللجوء إلى الرأي الاستشاري للمحكمة العليا من قبل الحكومة، والبرلمان عند الاقتضاء، لتقديم الإجابة النهائية حول هذا الموضوع ووضع حد للجدل الدائر حوله. وقبل ذلك سأناقش نقطتين تتعلقان ببعض ما لم يقع تناوله بخصوص مفهوم الخيانة العظمى وجدلية المادة 93 من الدستور بشأن الاختصاص في محاكمة الرئيس.
1.
الخيانة العظمى مفهوم قديم، يبدو أنه ذو أصل أخلاقي قبل أن يراد له أن يكون جريمة يعاقب عليها القانون. فقد ورد هذا المصطلح في الدساتير الفرنسية منذ دستور العام الثالث (22 أغشت 1795) الذي حاول ربط المصطلح بجريمة تأخير أو عرقلة اجتماع الجمعيات الأولية المكلفة بتعيين ناخبي الجهاز التشريعي؛ كما كان دستور 1848 أكثر وضوحا عندما نص في المادة 68 على أن كل إجراء يقوم من خلاله رئيس الجمهورية بحل الجمعية الوطنية أو بتمديدها أو بعرقلة مأموريتها يشكل جريمة خيانة عظمى. غير أن دساتير الجمهوريات الثالثة والرابعة والخامسة (قبل 2007) تركت مصطلح الخيانة العظمى دون تعريف، بل لم تضف عليه صفة "الجريمة"؛ مما جعل المفهوم يتعرض لنقد لاذع وصل ببعض الفقهاء حد القول بأن هذا المصطلح لا يصلح لأن يكون أساسا لمتابعة رئيس الجمهورية قضائيا. يقول ليون ديغي (Léon Duguit) في هذا المعنى أنه في ظل المادة 8 من إعلان حقوق الانسان لسنة 1789 التي تمنع مقاضاة أي شخص إلا بناء نص قانوني سابق على ارتكاب الجريمة، فإن عدم تحديد العناصر المشكلة لجريمة الخيانة العظمى يجعل محاكمة رئيس الجمهورية على أساس الخيانة العظمى أمرا مستحيلا.
لا غرابة أن تستوحي بعض بنود دستورنا من الدستور الفرنسي، فهو قانون عريق ومصدر هام وثري لقوانين العديد من الدول، خاصة الفرنكفونية، لكن السؤال المشروع هو لماذا لم يفكر واضعو ومغيرو الدستور الموريتاني في تعديل المقتضيات المتعلقة بمصطلح الخيانة العظمى خلال الحراك الدستوري الخاص بمحكمة العدل السامية سنة 2008-2009، وقد وجودوا الفرصة سانحة لذلك خلال التعديل الدستوري لسنة 2012، سيرا على نهج فرنسا التي ألغت هذا المصطلح من دستورها سنة 2007 واستبدلته بمصطلح يعبر أن أفعال ملموسة وحددت عقوبة التنحية لرئيس الجمهورية عندما يرتكبها. كما كشف فقهاء القانون الدستوري الفرنسي عن عيوب مصطلح الخيانة العظمى وعدم صلاحيته لما وضع من أجله؟ فهل حافظ مشرعونا عل مصطلح الخيانة العظمى مبهما ودون عقوبة لتبقى محاكمة رئيس الجمهورية مستحيلة، كما قال الفقيه الفرنسي ديغي في كتابه (Traité de droit constitutionnel) الصادر سنة 1924.
يذهب بعض فقهاء القانون الفرنسي لأبعد ما وصل إليه ديغي حيث يكيفون مصطلح الخيانة العظمى بأنه جريمة سياسية لا تستجيب لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات. يقول موريس هوريو (Maurice Hauriou) إنه من هذه الزاوية لا يحقق متطلبات المحاكمة العادلة.
وإذا أسقطنا ما ذهب إليه فقهاء القانون الفرنسيين على الحالة الموريتانية، فإن محاكمة رئيس الجمهورية، سواء كان سابقا أو حاليا على أساس الخيانة العظمى التي لم يعرفها الدستور ولم يضع لها عقوبة محددة، ستصطدم بجملة من المبادئ الأساسية المكرسة بوضوح في الدستور وفي الاتفاقيات الدولية المصادق عليها، ومن هذه المبادئ مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات الذي يقتضي وجود نص سابق يحدد الجريمة والعقوبة المناسبة لها قبل ارتكاب أي فعل يعتبر جرما، ومبدأ الحق في محاكمة عادلة أمام هيئة قضائية شرعية.
وبما أن الجرائم يجب أن تتجسد في أفعال قابلة للملاحظة والمعاينة، فإن علينا البحث عن العناصر المشكلة لجريمة الخيانة العظمى في الدستور نفسه طالما أن رئيس الجمهورية غير خاضع لبقية القوانين العقابية، أي علينا أن نجد الترجمة الملموسة لهذه الجريمة من خلال الدستور. في هذا الصدد قد تسعفنا اليمين التي أقسم عليها الرئيس عند تنصيبه. فهذه اليمين تتضمن الالتزام بالقيام بأفعال والالتزام بالامتناع عن أفعال. والنكوث بها يعتبر قياما بما كان يجب تركه وتركا لما كان يجب فعله؛ وهذا هو تعريف الجريمة. تتضمن اليمين المنصوص عليها في المادة 29 من الدستور التزام الرئيس بتأدية وظائفه بإخلاص وعلى الوجه الأكمل، ومزاولتها مع مراعاة احترام الدستور وقوانين الجمهورية الإسلامية الموريتانية، والسهر على مصلحة الشعب الموريتاني والمحافظة على استقلال البلاد وسيادتها وعلى وحدة الوطن وحوزته الترابية. فالتفريط في مصالح الشعب من خلال تبديد المال العام أو الاستحواذ عليه، أو من خلال إيثار أطراف خارجية في صفقات تؤدي لضياع الثروة الوطنية يعتبر نكثا باليمين، وبالتالي ترجمة ملموسة لجريمة الخيانة العظمى ونفس الشيء ينطبق بشكل أوضح على التفريط في جزء من التراب الوطني.
ولكن حتى سلمنا بإمكانية تحديد العناصر المشكلة لجريمة الخيانة العظمى، فإن الاختصاص في محاكمة الرئيس السابق ستطرح مزيدا من الإشكالات التي لا تقدم لها المادة 93 من الدستور أي إجابة بقدر ما تزيدها جدلا وتعقيدا.
2.
تنص المادة 93 من الدستور على أنه لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولا عن أفعاله أثناء ممارسة سلطاته إلا في حالة الخيانة العظمى. لا يتهم رئيس الجمهورية إلا من طرف الجمعية الوطنية التي تبت بتصويت عن طريق الاقتراع العلني، وبالأغلبية المطلقة لأعضائها. وتحاكمه في هذه الحالة محكمة العدل السامية.
ثلاث نقاط تقتضي التوقف عندها لمعرفة من هو القاضي الطبيعي لرؤساء الجمهورية السابقين. ولتقريب الإشكالية أكثر نتساءل أولا عن فلسفة وضع هذه الحماية؟ هل هي لصالح شخص رئيس الجمهورية كما يذهب إلى ذلك الفقه الفرنسي الذي يرى أن الهدف منها هو منح الرئيس الحرية اللازمة للقيام بمهامه دون مضايقة من القضاء. لكن قد يكون هدف الحماية كذلك حصانة الأعمال والأفعال المرتبطة بالرئيس كرئيس من دائرة الرقابة القضائية، وليس الرئيس نفسه. وهنا تستمد نظرية الأعمال المنفصلة كامل أهميتها للتمييز بين الاعمال المتصلة بالرئيس كشخص والاعمال المرتبطة بأفعال الرئيس كسلطة.
وتترتب على الحالتين نتائج مختلفة. فإذا كانت الحماية قد وضعت لمصلحة شخص الرئيس، فإنها بطبيعة الحال تتوقف فور خروجه من السلطة ليصبح مواطنا عاديا يخضع للقانون والقضاء كسائر المواطنين؛ وهذا ما يجسده النظام الفرنسي الذي يتابع رؤساء السابقون فيه أما القضاء العادي عل الأقل بسبب أفعال ارتكبوها قبل أو بعد ممارسة وظائف الرئاسة (تمت مثلا متابعة الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي بعدة قضايا لا تتعلق بأفعال قام بها أثناء مأموريته باستثناء قضية واحدة تسمى قضية الاستطلاعات (L’affaire des sondages) أو شهادته في قضية برنار تابي (Bernad Tapis-Credit lyonnais).
أما إذا كان هدف الحصانة هو حماية الأفعال التي يقوم بها الرئيس أثناء مأموريته لإخراجها من دائرة رقابة القضاء العادي وإخضاعها فقط لمحكمة خاصة (محكمة العدل السامية) وتكييفها تكييفا خاصا (خيانة عظمى) فهنا يقف القضاء مكتوف الأيدي حتى أمام الرئيس السابق نظرا إلى أن معيار الاختصاص هنا موضوعي يتعلق بأفعال الرئيس، وليس معيار شخصيا يتعلق بشخص الرئيس.
ظاهر المادة 93 يتحدث عن مسؤولية رئيس الجمهورية أثناء ممارسة مهامه، وهذا يفهم منه توجه واضعي الدستور إلى اعتبار أن اختصاص محكمة العدل السامية يشمل الرئيس عندما تثار مسؤوليته أثناء توليه السلطة، وبالتالي لا يمتد إلى رئيس سابق. ويدعم هذا الفهم الظاهري أيضا أنه هو الذي يقول به القضاء الفرنسي حتى بعد تعديل المادة 68 من الدستور الفرنسي وحذف مصطلح الخيانة العظمى واستبداله بمفهوم أكثر دقة – رغم تشكيك بعض الفقهاء في قدرته على كشف الغموض الذي يلف سابقه - فقد اعتبر المجلس الدستوري الفرنسي في القرار رقم 98-408 بتاريخ 22 يناير 1999 أن المادة 68 لا تعطي للرئيس حصانة جنائية عامة، بل تمنحه امتيازا قضائيا؛ وعليه لا يمكن محاكمته إلا أمام محكم العدل السامية خلال فترة مأموريته من أجل الجرائم التي يرتكبها
(Le Conseil Constitutionnel … a ainsi considéré que l'article 68 ne prévoyait pas d'immunité pénale générale mais un privilège de juridiction au profit du président de la République. Il ne peut alors être jugé que par la Haute Cour de justice pendant que dure son mandat pour les infractions pénales qu'il aurait commises)
ورغم هذا فإن الرؤساء السابقين في فرنسا ما زالوا محميين بالحصانة من المثول أمام القضاء العادي بسبب الأفعال المرتكبة أثناء تأدية وظائفهم. فقد تم فتح عدة قضايا ضد نيكولا ساركزوزي وقبله ضد جاك شيراك وبعده ضد فرانسوا هولاند؛ لكن أيا منها لا تتعلق بأفعال مرتكبة أثناء تأدية وظائفهم باستثناء قضيتي ساركوزي المذكورتين أعلاه. ما يعني ان الفقه والقضاء الفرنسيين، رغم قولهما بضرورة اقتصار الحصانة على فترة ممارسة السلطة الرئاسية ما زالا مترددين في دفع الرؤساء السابقين أمام القضاء العادي من أجل أفعال تتعلق بتأدية وظائفهم.
يحتل موضوع الاختصاص أهمية كبيرة في المجال القضائي ويعد من النظام العام. فبالإضافة إلى أنه يضمن للمتقاضي حقه في المثول أمام قاضيه الطبيعي، فإنه يجنب خطر الإفلات من العقاب عندما يحال متهم أمام قاض غير مختص ويحكم هذا الأخير بعدم الاختصاص من تلقاء نفسه أو بناء على طلب المتهم أو ممثله. لذلك يتعين في الملفات الحساسة التأكد من صحة الإحالة؛ وهنا يبرز الدور الهام لاستشارة المحكمة العليا قبل اتخاذ قرار مصيري بالإحالة.
3.
تنص المادة 12 من النظام الأساسي للقضاء على أنه للحكومة أن تطلب من المحكمة العليا إعطاء رأيها في مشاريع النصوص التشريعية والتنظيمية وحول كل المسائل التي يصرح نص تشريعي أو تنظيمي بتدخل المحكمة فيها. يمكن أن تستشار المحكمة العليا كذلك من طرف الوزراء في الصعوبات ذات الطابع القانوني التي تثار خلال تسيير المرفق العمومي.
لا يفتح هذا النص صراحة المجال أمام البرلمان لاستشارة المحكمة العليا في القضايا القانونية التي تطرح أمامه. لكن إمكانية استشارة الهيئة التشريعية لمحكمة القانون واردة في ظل عدم وجود دور للأخيرة في رقابة دستورية القوانين، ولكون الاستشارة لا تعارض مبدا الفصل بين السلطات ما دام الدستور يسمح للسلطة التنفيذية (الوزراء والحكومة) باللجوء إلى المحكم العليا لأخذ رأيهاا. وقد يكون من الممكن طلب الرأي بواسطة الحكومة ممثلة في وزير العدل.
وسيكون لأخذ رأي المحكمة العليا في تفسير مقتضيات المادة 93 من الدستور وتحديد مفهوم الخيانة العظمى وجهة الاختصاص في محاكمة الرؤساء السابقين عن الأفعال المرتكبة أثناء تأدية وظائفهم أثر كبير في تفادي أخطاء جسيمة كانت لتنجم عن التصدي لمثل هذه الاشكاليات القانونية المعقدة من قبل برلمانيين أغلبهم غير مختص في المجال القانوني وجميعهم يخدمون وطنهم من زوايا المصالح السياسية والاعتبارات الحزبية.
خلاصة
لا شك أن نشر ثقافة إنشاء اللجان البرلمانية للتحقيق في شُبه الفساد وتتبع مصير أموال الشعب تعتبر ظاهرة صحية ومظهرا متحضرا من مظاهر دولة القانون، كما ستشكل ورادعا أساسيا يجعل أي مسؤول عن يتردد كثيرا قبل الاقدام على خيانة الأمانة التي كلف بها.
غير أن فعالية دور البرلمان في التصدي للفساد ونهب المال العام وسوء استغلال السلطة يبقى مرهونا بوجود منظومة قانونية متكاملة تلعب فيها كل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية دورها دون أن تتدخل إحداها في اختصاص الأخرى.
ويقتضي تقسيم الأدوار أن يكون التصدي للجرائم وإنزال العقاب بمرتكبيها من اختصاص القضاء، صاحب الاختصاص الأصلي، وغيره استثناء بشروط تعجيزية.
*المعلومات الواردة هنا عن الموضوع في فرنسا أغلبها مصدره موقع مجلس الشيوخ الفرنسي www.senat/fr