أسعى من خلال هذا المقال إلى عرض جملة من الأفكار التي تولدت لدي خلال تجربتي المهنية الممتدة لعدة سنوات عضوا في لجنة قيادة البرنامج الوطني لترقية قطاع التعليم. وقد يكون من نافلة القول إن التعليم في بلدنا يعاني من اختلالات متعددة ليس هذا مقام الخوض فيها. غالبا ما نصب جام انتقاداتنا على التعليم الأساسي كونه الأساس الذي تنبني عليه العملية التعليمية وفي نفس الوقت نهمل مستويات أخرى من التعليم إما ظنا بأنها لا تعاني مشاكل كبيرة أو أدهى من ذلك اعتقادا أنها حققت نجاحات معتبرة تخرجها من دائرة الاختلال. والواقع أن فصل القول في هذه المسألة ورد في البرنامج الانتخابي لرئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني حين شخص وضعية التعليم بشكل عام موضحا أن نظامنا التعليمي ما يزال غير قادر "على فتح آفاق التطور المهني المنشود أمام شبابنا، من جهة، وعن إعداد اليد العاملة المؤهلة الضرورية للنهوض باقتصادنا، من جهة أخرى".
وهذا التشخيص الذي أوردْته حرفيا من برنامج السيد الرئيس يؤكد حقيقة راسخة يعرفها أهل الاختصاص وهي أن النظام التعليمي سلسلة متشابكة لا يمكن فصل بعضها عن بعض مهما تقاسمتها القطاعات الوزارية الفرعية. ولا يمكن في المحصلة النهائية أن نحتسب الفشل في التعليم لقطاع فرعي والنجاح لقطاع فرعي آخر، هذا إن أردنا أن نكون منصفين، لأن كل قطاع فرعي من قطاع التعليم قد أسهم في تحقيق ذلك النجاح. وهنا لا يسعني إلا أن أكرر عبارة قلتها في مناسبات عديدة وهي أن نظامنا التعليمي يحمل بذور النجاح لكن هذه البذور تحتاج إلى الرعاية بالسقي بالماء والتطعيم بالسماد والحفظ من الآفات.
ومهما يكن من أمر فإن نجاح العملية التعليمية في التعليم العالي، موضوع المقال، لا يمكن أن يقاس بعينة قليلة في تخصصات محددة من العلوم الطبيعية أو الهندسة كما هو الحال في مدرسة التقنيات ESP التي تستفيد من الوصاية المشتركة مع وزارة الدفاع، ما أكسبها الجاهزية والانضباط اللذان يميزان التكوين العسكري. لقد حقق طلاب قسم النخبة classe étoile في هذه المدرسة نتائج جديرة بالإعجاب وتفوقوا على الطلاب في الدول المجاورة. لكن يجب ألا يغيب عن أذهاننا أن طلاب قسم النخبة classe étoile يتلقون تكوينا خاصا يحضرهم لإجراء تلك المسابقات الدولية وبالتالي فلا يمكن احتساب نجاحهم وتفوقهم مؤشرا على نجاح التعليم العالي. إذا أردنا أن نقيس أداء التعليم العالي في بلدنا فلا بد أن نهتم بنتائجه في باقي العلوم الأخرى التي يحتسب بها ترتيب الجامعات في بقية بلدان العالم وهي العلوم الطبيعية sciences naturelles والهندسة sciences de l'ingénieur، والعلوم الحياتية sciences de la vie والعلوم الطبية/الصحية sciences médicales والعلوم الاجتماعية sciences sociales وكل واحد من هذه العلوم تندرج تحته تخصصات كثيرة.
إن الرفع من مستوى تعليمنا العالي وجعله أكثر انسجاما مع الأهداف التي رسمتها الحكومة في إعلان سياستها العامة والنهوض به ليكون أكثر تنافسية وانسجاما مع متطلبات تنمية المجتمع يتطلب منا أن نبتعد عن الانتقائية بالتركيز على مكون واحد وإهمال المكونات الأخرى. لا بد من أن نعير اهتماما أكثر لباقي ميادين العلوم الأخرى خاصة منها العلوم الإجتماعية التي تشهد خلال السنوات الأخيرة تدهورا متواصلا وغير مسبوق. ولتحقيق هذه الأهداف، فإن مؤسسات التعليم العالي مطالبة بأن تعيد تصميم المحتوى التعليمي والمناهج الدراسية لتلبية متطلبات التنمية وتحقيق الأهداف التي حددتها الحكومة في إعلان سياستها العامة. والهدف من إعادة التصميم هذه العمل على تنمية مهارات الطلاب الموريتانيين الشباب ودعم إمكانية توظيفهم. ولنرى الآن كيف يمكن لكلية الآداب والعلوم الإنسانية على سبيل المثال أن تستجيب لهذه المتطلبات وأن تسهم في تحقيق أهداف التنمية المنشودة.
كلية الآداب والعلوم الإنسانية (FLSH)، هي أكبر مؤسسة من حيث عدد الطلاب. ويرجع هذا الوضع جزئيا إلى شروط التسجيل السهلة نسبيا لخلوها من شروط المعدل أو الشعبة أو السن، رغم أن شرط السن قد شهد تقييدا ب 25 عاما وقد أثار ذلك التقييد ما أثار من غليان بين الشباب على مدى السنتين الماضيتين. يضاف إلى ذلك العدد الكبير من الشعب والتخصصات الدراسية وبعدة لغات مختلفة. هذا الوضع يزعزع ظروف عمل الموظفين الإداريين والأساتذة ويؤثر على سير التدريس والإدارة. كل هذا في غياب نظام تقييم تعليمي فعال، وغياب نظام توجيه وإعلام مرتبط بسوق العمل وأرباب العمل، ناهيك عن الافتقار إلى المناخ الملائم للبحث العلمي. ولعل من المهم هنا أن نُذكّر بأهمية تعزيز قدرات موظفي قطاع التعليم العالي عمالا وأساتذة. لقد افتقر القطاع إلى خطة عملية لتحسين أداء الموارد البشرية ومن مؤشرات هذا التقصير أن أساتذة التعليم العالي في حاجة إلى اكتساب مهارات التكنولوجيات التعليمية les technologies éducatives التي تعين على استخدام تقنيات الإعلام والاتصال لأغراض تعليمية كما هو حال زملاءهم في دول الجوار. وقد كان من تداعيات التراخي في تحسين قدرات الموارد البشرية في الوزارة ما حصل من شلل في مؤسسات التعليم العالي وانقطاع للدراسة بسبب وباء كورونا. بينما نجد أن جامعة العلوم الإسلامية التابعة لوزارة الشؤون الإسلامية تمكنت من التعايش مع وضعية الوباء باستخدام تقنيات التعليم عن بعد وحققت في ذلك نتائج مرضية رغم أن وزارة التعليم العالي تمتلك مقومات الاضطلاع بهذه المهمة لكن ينقصها الجاهزية أو الإرادة أو ربما خطة عمل قابلة للتنفيذ.
وإذا أردنا أن نكون عمليين، فإنه يمكننا أن نجعل من الكلية مؤسسة تعليمية ذات فاعلية عالية من خلال التركيز على الجوانب التالية: -دعم إتقان اللغات العالمية، -التمكين من استخدام تكنولوجيات المعلومات والاتصال (TIC)، -تنمية القيم الأخلاقية والمدنية الوطنية والإنسانية، -تعزيز خدمة الإعلام والتوجيه الأكاديميين، -زرع ثقافة ريادة الأعمال.
ومن الجدير بالذكر أن جل هذه المتطلبات وردت في البرنامج الانتخابي لرئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني. وتجنبا للإطالة فإنني أضرب صفحا عن التفصيل فيها ولكن لابد لي من التأكيد على أهمية اكتساب اللغات لأن الغالب الأعم على طلابنا اليوم هو عدم تمكنهم من ناصية اللغة سواء في ذلك العربية أو الفرنسية أو الإنكليزية. لقد قمت بتجربة عملية لتحديد المستوى الحقيقي في اللغة العربية لعينة من طلابي فطلبت من مدرسين للغة العربية مراجعة أوراق العينة المختارة عشوائيا وقد جاءت النتيجة صادمة ومقلقة في نفس الوقت. لأن مستوى طلابي الجامعيين في التحرير بالعربية لم يتجاوز السنة الثالثة ابتدائية بحسب راي المدققين. لكن الصعوبة لم تتوقف عند هذا الحد، فقد قررت الإدارة الوصية على قطاع التعليم العالي فرض التدريس مناصفة بين العربية والفرنسية. وقد زاد هذا الإجراء الطينة بلة وخلق وضعية صعبة للغاية تنذر بمستقبل كارثي للطلاب بسبب جهلهم التام باللغة الفرنسية. والإجراء الأسلم كان يقتضي تعزيز قدراتهم في العربية والفرنسية والإنكليزية لكي يكتسبوا القدرة على العمل بهذه اللغات بدلا أن تكون سببا لفشلهم في الدراسة وإقصاءهم من الجامعة وتعريض مستقبلهم للخطر.
وأخيرا فإنني أرى أن نظامنا الجامعي يعيش وضعية استثنائية وأن الحلول ينبغي أن تكون هي الأخرى استثنائية. ولابد أن يكون الحل متناسباً مع حجم المصاعب التي يعانيها الشباب الموريتاني، سواء في التعليم أو التوظيف. ولابد أن يلبي هذا الحل أيضاً طموحات بلادنا والتحديات التي تواجهها. وبناء على التشخيص المذكور آنفا فإنني أتقدم بالتوصية التالية المتمثلة في تخصيص وقت أكثر في المسار الجامعي لدعم إتقان اللغات الثلاث العربية والإنكليزية والفرنسية بالإضافة إلى المعلوماتية فهذه هي المهارات الأساسية التي لا غنى عنها والتي تتيح للشباب فرصا أكثر للتوظيف داخليا وفي الخارج. وأود أن أسجل ارتياحي للجاهزية التي طبعت عمل الحكومة في الحالات الاستثنائية التي شهدها بلدنا. وفي هذا المضمار يمكن أن ندرج القرار بتمديد سن العمل ثلاث سنوات إضافية، وهو إجراء سيساعد دون شك في تقليل أثر النقص في الموظفين المؤهلين ويمنح وقتا إضافيا للعمل على تكوين جيل قادر على سد النقص والاستجابة لحاجة سوق العمل.