تقول القصة إن موظفا قبض ذات يوم راتبه وركب الحافلة المزدحمة ليصل إلى بيته كعادته ... كان في الحافلة لص محترف وقف الى جانب الموظف المسكين و في لحظة غفلة سرق نقوده دون أثر و عندما طلب القابض ثمن التذكرة لم يجد الموظف المسكين في جيبه شيئاً، فاحمر وجهه خجلاً وارتبط لسانه، فقال له القابض مستهزئاً: عيب! تظهر على نفسك الإحترام و لا يوجد في جيبك ما تسدد به أجرة ركوبك حافلة عمومية!...
طافت باللص حالة من النخوة فقال للقابض: أخي... ثمن تذكرة الأستاذ على حسابي، فابتسم الموظف المسكين و قال للص: الله يبارك فيك ويكثر من أمثالك يا سيدي...
أخذ الركاب يمدحون اللص ويثنون على أخلاقه العالية ويدعون له ولأمثاله بأن يبارك الله فيهم ويكثر من أمثالهم... و منذُ ذلك اليوم و أعداد اللصوص تتضاعف حتى صاروا هم الأكثرية و وصل ممثلوهم إلى أعلى المراتب في السلطة، ومازالوا يتلقون الشكر والتقدير من عامة الشعب الى يوم الناس هذا.
***
نحن في بلد مؤسساته وصلت الى حافة الإنهيار بسبب تكاثر اللصوص فيها كما تتكاثر و تنتشر الحشائش الضارة التي لم يزرعها أحد و لم يعتن بها أحد... هذا توصيف مؤسف و لكنه واقع لا مفر من الإقرار به بعد ما أبان عنه تقرير لجنة التحقيق البرلمانية و قبله تقرير محكمة الحسابات، و حالة الانهيار في مؤسساتنا بدأت منذ عقود و اكتملت بالتمام و الكمال في عشريتنا الأخيرة التي تعرفون تفاصيل قصتها الحزينة...
ربما يجادلني أحدهم في هذا التوصيف من الذين لا يعرفون معنى "المؤسسات" أو من الذين لا يعلمون أن مؤسساتنا هي- الى عهد قريب و ربما مازال بعضها - عبارة عن إقطاعات يسيرها مسؤولون بمرجعية " الأوامر و التوجيهات العليا" بعيدا عن منطق المعايير و النظم و المساطر التي يجب أن تحكم المؤسسات أينما وجدت.
***
مما يعرفه المبتدئون تواترا في فن الإدارة أن "الإدارة مكتوبة"... فلا يصح و لا يصلح أن يتكئ أحدهم على أمر شفوي مزعوم صادر إليه من مرؤوسه و خاصة إذا تعلق الأمر بالتصرف في مصالح و ممتلكات و ثروة عمومية محصنة قد حدد القانون كيفية التصرف فيها و حدد من يحق له ذاك التصرف ... ذلك في الحقيقة تجل غير مسبوق من تجليات السيبة في هذا البلد المنكوب بنخبه التي تلبس البدلات و ربطات العنق الفاخرة و تتعامل و تتصرف في شأن الدولة تماما كما يتصرف سكان الأدغال في العصور الغابرة...
في سنة 2016 وقع إنقلاب في تركيا و كان على رئيسها التصرف بسرعة من خلال توجيه أوامر للوحدات المختصة لمواجهة الطائرات التي بدأت تقصف مواقع حيوية، و في تلك اللحظة الحرجة وجد الرئيس صعوبة بالغة-كما ذكر هو نفسه بعد ذلك- في الإستجابة لأوامره الشفوية لأن النظم تقول بإلزامية أن تكون الأوامر مكتوبة و ليست شفوية.... هذا ليس إطراء لأحد بقدر ما هو مثال لمدى تمسك المؤسسات في دولة المؤسسات بالنظم و المساطر الحاكمة حتى في الأوقات الحرجة جدا.
***
منذ سنة و في حديث عابر مع أحد الأطر القلائل الذين يطلق الناس عليهم مصطلح "المنفوشين" بسبب فشلهم في نهب الملايين، قال : هذا البلد بلغ درجة من فساد النخبة لا يصلحه معه إلا إستجلاب حكومة كورية أو صينية أو روندية للإشراف على إعادة تأسيس الدولة... فالدولة منهارة في كل زاوية من زوايا هذا البلد.
بالمناسبة "روندا" دولة صغيرة في منطقة البحيرات العظمى وسط أفريقيا أنهكتها الحروب والمذابح في السنوات من 1993 الى 1995م لكنها بعد توفر الإرادة لدى أهلها وجهت جهودها الى إنجاز ما ينفع الناس فيها و يمكث في أرضهم من خلال خطة عمل من عدة محاور أولها توحيد الشعب، و ثانيها انتزاع البلاد من الفقر ... وبذلك إستطاع هذا البلد تحقيق المعجزة حيث ارتفع متوسط دخل الفرد عام 2015 إلى ثلاثين ضعفا عما كان عليه قبل عشرين عاما و توجت البلاد نجاحها سنة 2019 بإطلاق أول قمر اصطناعي في إطار مشروع متكامل لربط المدارس والمناطق الحضرية بالإنترنت المجاني، والانتقال لشبكات الكوابل الضوئية بتكلفة تجاوزت ملياري دولار و بات اقتصاد روندا هو الأسرع نمواً في أفريقيا خلال السنوات الأخيرة.. و تراجع معدل الفقر في هذا البلد من 60% إلى 39%، و نسبة الأمية تراجعت من 50% إلى 25%، وبحسب تقارير أفريقية فإن رواندا شهدت التطور الاقتصادي الأكبر على مستوى العالم منذ 2005، وارتفعت قيمة الناتج الإجمالي المحلي إلى نحو 8.5 مليارات دولار في العام 2016 بينما كان نحو 2.6 مليار عام 2005... بالنسبة للرونديين النهوض بالبلد لا يحتاج الى عبقرية خارقة... يحتاج الأمر فقط الى جعل مؤسسات الدولة خالية تماما من الفساد و الرشوة بالإضافة الى تطبيق القوانين بصرامة مع تشجيع الاستثمار و جعل إجراءاته بسيطة للغاية بعيدا عن عقلية و ثقافة " الكومسة" و عن تحايل الوسطاء و غيرها من مهلكات الاقتصاد و التنمية.
***
يخيل إلي أننا شعب ذاكرته بخفة الفقاعة أو بعضنا على الأقل... و أن تصوراتنا للأحداث ببساطة خيال المراهقين الذين تسيطر عليهم العقلية التي تقول "والديكم قادرون"... فينتقدون و يقيمون ما يحدث على أساس تلك العقلية و الواقع - أيها السادة- أن "ألّي ماهو في الديكا أرجيل"...
لست طبيبا و لكني أزعم أن الطبيب الحقيقي هو ذلك الذي يصرف لمريضه الدواء وصفة بعد وصفة ... يعالج أخطر الحلات و يترك بعضها الى حين التعافي من تلك الحالات الحرجة ... إنه يرى و يقدر الخطر و لكنه يعرف أيضا أن مريضه لن يتحمل عشر وصفات في نفس اليوم لأن ذلك قد يفضي به الى أن يكون كذلك الذي جاء يطبب عين مريضه "ففقأها".
يعتقد البسطاء أن تغيير بلد مؤسساته منهارة أمرا سهلا هينا و أن أمرا و نهيا و توجيها "ساميا" ربما يجعل هذا البلد يستعيد عافيته... و يرى هؤلاء البسطاء جدا أن إفراغ المؤسسات من الفاسدين و ملئها بالصالحين المصلحين أمرا يسيرا ... و لذلك نراهم يستعجلون التغيير... فلدى كل واحد منهم لائحة مزكّاة يريد أن يراها في موقع المسؤولية و لديه أخرى قد حكم عليها دون محكمة أو محاكمة بالفساد و يريد أن يرى أصحابها في سجن ولاتة أو سجن بئر أم كرين... الأمر أعقد مما تتخيلون أيها السادة.
***
قال عبد الملك لأبيه عمر ابن عبد العزيز ذات مرة : "ما لك لا تنفذ الأمور؟ ... فو الله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق"... قال له عمر رضي الله عنه : "لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، و يكون من ذا فتنة".
و التدرج الذي رآه عمر رضي الله عنه يقتضي مراعاة القدرة و التحمل ، ودرء أشد المفسدتين باحتمال أدناهما، ففي الأول منهما قوله: "إني أخاف أن أحمل الحقَّ على الناس جملةً فيدفعوه جملةً" و في الثاني منهما قوله: " يكون من ذا فتنة "... إنها إذن سنة التدرج و هي من سنن الله التي لا تتبدل و لا تتحول من أخذ بها وصل و حصل مراده و لو بعد حين و من تجاهلها كان نصيبه الخيبة البوار.
***
الحاكم الذي ينهب خيرات بلده و يحولها "ردمات فئران" لا يستوي هو من يحافظ على خيرات بلده و يبنى لشعبه حياة كريمة تحترم فيها كرامة الإنسان و حقه في الحياة ... و لا يستوى أبدا هو من يستعيد لبلده شيئا من أخلاق التسامح و الإحترام المتبادل بين أطيافه و مكوناته و يضفى على الحياة السياسية ذوقا أخلاقيا يجعل للتنافس معنى و مبنى... لا يستوون لا عند الله و لا عند الناس ...
***
الذين قرؤوا برامج رئيس الجمهورية منذ سنة و دعموه على أساس ما فيه من تعهدات يجدون اليوم فرصة لتعزيز ثقتهم في الرئيس و برنامجه الذي يهدف في النهاية الى إقامة مؤسسات دولة... قد لا يحدث ذلك على الطريقة السحرية التي يتمناها أصحاب عقلية "والديكم قادرون" و لكن الأمل يتجدد مع كل مقارنة بين ما كان منذ سنة و ما هو كائن اليوم... و يبقى الأمل معقودا على مواصلة المسيرة رغم ما بالطريق من عقبات و مطبات تم وضعها بإحكام و حرفية و تم ربطها بشبكة يصعب تفكيكها بدون التحلى بالصبر و الأناة و شيء من الحلم أحيانا ... و لكن كما قيل: قطع مسافة الميل يبدأ بخطوة و "يمشي بشور ألي في اخلاكه يجري".
***
أيها السادة، بلدنا ليس بحاجة الى رئيس يوزع التهم و الأحكام على الناس و إنما هو حاجته ماسة الى رئيس يترك مؤسسات الدولة تنجز عملها في إطار ما أعطيت من صلاحيات دستورية ... هذا بالضبط هو الطريق الوحيد نحو بناء دولة المؤسسات التي بدونها لا يستحق بلد أن يسمى دولة.
في هذه المرحلة يكفينا من رئيس الجمهورية أن لا يقف في طريق التحقيقات أو ما سيترتب عليها... سيكون ذلك بحق هو أعظم إنجاز قدمه أي رئيس لهذا البلد الذي كان على الدوام يتم إختزال جميع مؤسساته في شخص رئيس الجمهورية الذي كان حتى آخر يوم من العشرية الأخيرة عقبة كؤودا في وجه أي محاولة لإرساء دولة المؤسسات.
***
من لي بمثل سيرك المدللِ ...
تمشي رويدا وتجي في الأولِ
العمل الذي ينفع و يمكث في الأرض هو ذلك الذي ينجز بهدوء بعيدا عن جلبة الضوضاء و الشعارات الطنانة الرمانة التي لا تبقي ظهرا و لا تقطع أرضا.
على عكس ما يتمناه الكثيرون، أرجو من السيد الرئيس أن يزيد من جرعة الهدوء و الروية في حركته و أن لا يكون في عجلة من أمره بحال من الأحوال... فالعجلة من الشيطان و التأني من الله...
في طريق إصلاح هذا البلد وضعت ألف مطبة و مطبة، وضعها من لا يريدون الخير لهذا البلد من أعداء الخارج و الداخل ... هذه المطبات وضعت بإحكام لا ينفع معه إلا الهدوء التام و الاجتهاد في تقدير المكان و الزمان المناسبين لكل خطوة... هذا لا يعني عدم الإقدام خطوة كاملة كلما اكتملت الشروط و توفرت الظروف إذْ أن الأحجام في وقت الإقدام مضر كالإقدام في وقت الإحجام... و خير الكلام ما قل و دل...