أولئك السابقون في مصر وتونس وليبيا قضوا أعمارا مديدة في الحكم والتسلط على مصائر وخيرات شعوبهم وأوطانهم، جعلت منهم حكاما إلى الأبد، يسعون للتمديد والتوريث، ويجعلون من الحزب الحاكم واللجان الثورية وجمع المال والولاءات الفردية والجماعية وإقصاء الخصوم مجرد أدوات لإطالة بقائهم في السلطة.
أولئك الذاهبون لم تغن عنهم شعارات التنمية والتنوير والاعتدال وسلطة الجماهير، فقذفتهم أمواج طوفان الثورة العربية خارج الحكم وأصبحوا يبكون على ملك ضيعوه، لأنهم لم يعرفوا كيف يحافظون عليه في زمن وعي ونهضة الشعوب لاسترداد المبادرة واستعادة كرامتها وحريتها وخيراتها ، التي طالما استحوذت عليها الأنظمة وسخرتها،بكل الطرق والوسائل المشروعة وغير المشروعة، للتحكم في مصير الوطن والعباد.
الأنظمة العربية لم تستفق بعد من هول الصدمة، فكل محاولات النجاة بقواربها من الغرق في موج طوفان الثورة والتغيير، بقيت حتى الآن خجولة ودون المستوى المطلوب، في ظل أنظمة عششت فيها كل تجليات الفساد والمحسوبية والانتهازية، فوجهت أموال الشعب وممتلكاته لمصالح قلة من الأقارب والمقربين، باعتبار أن المال هو عصب السياسة وأن تركه في أيادي غير مأمونة قد يؤدي إلى نتائج غير محسوبة.
معتقدات ميزت أغلب طبائع معظم الأنظمة الحاكمة من المحيط إلى الخليج، في ظل تغييب كامل لإرادة ساكنتها عن المشاركة الحقيقية والفاعلة في صناعة القرار السياسي.
ثروات استولىا عليها حكام وذويهم، خلال عقود عجاف و في غفلة من شعوبهم، تكفي لتسديد جميع مديونيات بلدانهم وسد أفواه الجياع ومعالجة المرضى وتعليم أجيال فيها.
إن تباطؤ الأنظمة العربية في فهم ما يجري في المنطقة من تحولات كبرى، ستؤسس لمرحلة جديدة في علاقة الحكام العرب مع شعوبهم ولوضع مغاير لعلاقة الغرب مع دول المنطقة، يعود لتراث طويل من التعامل مع هذه الشعوب بكثير من التغييب والاستخفاف والإهمال، لكن تسارع الأحداث وإطاحتها بأنظمة دول مركزية في العالم العربي وفي منطقة جغرافية متصلة وامتدادها للعديد من دول الدول العربية الأخرى، يجعل منها "فوبيا التغيير"، أصبحت تطارد أنظمة الاستبداد والإقصاء من الخليج إلى المحيط.
كل الأنظمة العربية المتبقية مطالبة اليوم باعتماد إصلاحات جدية في مواجهة مد الثورة والغضب الشعبي، أولها هو السماح بالمشاركة السياسية وتحقيق تنمية شاملة وثانيها هو التوقف نهائيا عن المزاوجة بين السلطة والمال، من خلال استغلال المواقع السياسية المتقدمة للاستحواذ على ثروات الشعوب واستغلالها للتحكم فيها.
في الوقت الذي تخلفت فيه كثير من الأنظمة العربية عن فهم شعوبها، حاول الغرب وبقيادة الولايات المتحدة الأمريكية أن يواكب سفينة التغيير وأن لا يتخلف عن الركب، لأن عالما عربيا يولد من جديد ومشاهد وأنظمة تتشكل على انقاض الأنظمة المتهالكة بفعل غياب الرؤية الإستراتيجية وعدم إدراك لحقيقة الأرض التي تقف عليها.
لقد تغير العالم وتغيرت معه أدوات الحكم وديمومة الأنظمة نتيجة ثورة المعلومات والتكنولوجيا والانترنت، التي أسهمت في بروز قوى جديدة في الصين والهند وشاركت في فك العزلة والحصار عن المعلومة والخبر، ومكنت جميع شعوب العالم من النفاذ لعالم المعرفة والاطلاع دون وصاية أو وساطة.
فقد قلصت ثورة المعلومات سيادة الدول في مجال احتكار حركة الأموال وتداول المعلومات داخلها، قبل أن تضئ بكاشفاتها معاقل القمع وترويض المعارضين، والتي طالما استخدمتها لسحق كل الأصوات المطالبة بالتغيير وبحياة أفضل.
لقد أصبح من السهل على كل الإفراد والجماعات انتاج وتحميل كل المستور من ممارسات أجهزة القمع وتداولها بواسطة وسائط الانترنت، قبل نقلها عبر آلاف القنوات الفضائية المتناثرة عبر دول العالم.
فالرسائل الالكترونية والنصية ساهمت في تسهيل عملية التواصل مع العالم بالإضافة للمواقع الاجتماعية وعلى رأسها "فيسبوك" و"تويتر"، التي تتميز بسرعة الحصول على أصدقاء وإنشاء مجموعات تتقاسم المعلومات المكتوبة والمصورة، وقد تجاوز عدد زبناء "فيسبوك" لوحده، خلال الربع الأخير من عام 2010، من 400 مليون إلى 600 مليون منتسب، وهو رقم قياسي في ظرف قصير بالمقارنة مع المواقع الأخرى، وهذا ما جعله محط أنظار واهتمام الكثيرين من رواد الشبكة العنكبوتية (الانترنت).
وقد وعت النخب في كل من تونس ومصر وليبيا أهمية هذه المواقع الاجتماعية، جاعلة منها مساحة افتراضية لتبادل الآراء وخلق أرضية مشتركة لإحداث التغيير المنشود في مجتمعاتهم.
وانتقلت عدوى ثورة "الفيسبوك" بما نوفره من إمكانية للتنسيق إلى المجتمعات العربية الأخرى ومن بينها موريتانيا، حيث يحاول بعض الشباب فيها إسقاط تجارب تلك الشعوب على واقعهم، سعيا منهم لتطوير النظام السياسي القائم وإجراء الإصلاحات السياسية والاقتصادية المطلوبة بالتناغم مع ما يجري في المنطقة العربية من تحولات جذرية، تتطلب من الأنظمة الحاكمة قراءة جادة لما يدور حولها والتجاوب مع تلك المطالب المشروعة في مجالات الحرية والعدالة والمساواة والتنمية.
صحيح أن موريتانيا الجديدة عمرها قصير لا يتجاوز بضع سنين، قضت نصفها في مواجهة انتفاضة الديمقراطية والبحث عن الشرعية والنصف الآخر في كسب تعاطف وود المجموعة الدولية من خلال الانضمام لنادي محاربة القاعدة وحراسة الحدود الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط من زحف المهاجرين من دول غرب إفريقيا باتجاه القارة العجوز، الذين يأملون في الحصول على فرص عمل جديدة، بعدما ضاقت عليهم بلادهم ذرعا وحرمتهم من متعة لقمة عيش كريم في أوطانهم.
ويشعر الكثيرون أن شعارات الإصلاح والانحياز للفقراء، لم تستطع الصمود طويلا ، فسرعان ما تلاشت أمام تحديات الواقع وضرورات التمسك بالسلطة، وما يستدعيه ذلك من عودة لاستخدام نفس الأدوات المترهلة والمتمثلة في الحزب الحاكم والقبيلة ولوبيات المال والسياسة المتنفذة والمسيطرة على كل مفاصل ومنافع السلطة، بالإضافة لفساد الإدارة وعجزها عن القيام بمهامها وغياب أية معايير موضوعية للنفاذ للوظائف.
تمتلك موريتانيا كل مؤسسات الدولة الديمقراطية، لكنها ظلت شكلا بدون مضمون، يسمح باحترام الدستور والقانون والفصل بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، ويفضي إلى تناوب سلمي على السلطة وتقسيم شفاف وعادل للثروة الوطنية.
إصلاحات ما زالت ممكنة في ظل وعي تام بما تمليه متطلبات هذه المرحلة الدقيقة من تسلح بإرادة التغيير وتجاوز مجرد الشعارات وتوظيفها السياسي إلى عمل وطني يشكل قطيعة مع سلبيات الماضي ويؤسس لمرحلة مختلفة تماما، أساسها احترام مؤسسات الدولة و حقوق المواطنة..