أمضى الزعيم والقائد الليبي معمر القذافي قرابة نصف قرن يحكم شعبه بأوهام شعارات مزيفة لم تطعم فقيرا ولم تعلم جاهلا ولم تساهم في تحرير أرض ولا نصرة قضية عربية ، بل ظل يسوم شعبه وأهله سوء العذاب كما كان يفعل الفراعنة مع قومهم وكل الحكام المتكبرين عبر تاريخ الديكتاتوريات الطويل.
لقد كان الشعب الليبي،قبل قيام ثورة القذافي وزملائه في سنة 1969، يتمتع بمستوى معيشي محترم، فتحول بفعل سرقة أمواله من طرف ملك ملوك افريقيا وعميد الحكام العرب والثائر،الذي سلم سلاحه النووي للأمريكيين على طبق من ذهب، من شعب غني ليصبح أحد أفقر شعوب العالم العربي وأكثرها جهلا وتخلفا عن الركب الحضاري.
لقد تحولت شعارات الثورة إلى مجرد أدوات للقمع والتهميش والإقصاء وهدر الحقوق المدنية والانسانية لحفدة وحملة راية المجاهد العظيم عمر المختار وتحول معها لونها الأخضر إلى لون قاتم أسدل ستاره ليغيب شعبا بكامله عن مسرح الأحداث وليجعل منه مجرد عبيد في زمن الاقطاعية، يخدمون مصالحه مقابل لقمة عيش مهينة.
لم يستطع القائد والزعيم الأبدي قتل جذوة الثورة والحيوية والطموح للتحرر، رغم التضليل الاعلامي وحملات التجهيل والشعارات المزيفة، فانتفض هذا الشعب عدة مرات مطالبا بحقوقه واسترداد دوره التاريخي في العالم العربي والإسلامي، وكانت مدينة بنغازي دائما هي المنطلق كما مثلت اليوم الشرارة الأولى في ثورة الحرية والكرامة والانعتاق من عقود الذل والهوان.
ثورة تواجه إحدى اعتى وأقدم الديكتاتوريات العربية وأكثرها قدرة على تزييف إرادة الشعوب وتبديل جلدها كلما دعت ضرورة البقاء في الحكم، ليتحول من رائد للمد القومي العربي إلى متنكر للعرب ومحتم بالأفارقة وحام لحدود أوربا من الهجرة السرية.
عندها يمكن القول أن مشروعية القائد انتهت عمليا وتاريخيا واصبح يعيش على فتات التحالف مع الدول الغربية وأبرزها فرنسا التي منحها الأولوية في نهب واستغلال ثروات الشعب الليبي في مجال النفط ومستخرجاته.
وهذا ما يبرر الصمت والتعتيم الذي تمارسه الدول الغربية في ظل محاولات الزعيم لقتل شعبه ووأد ثورته في مهدها، فهو الذي دفع قرابة ثلاثة مليارات لضحايا لوكربي مقابل التمديد له في السلطة. لكن القائد لم يدرك حقيقة التحولات الكبيرة التي أحدثتها ثورتي تونس ومصر على حدوده الغربية والشرقية، بل كان الزعيم العربي الوحيد الذي أنب الشعب التونسي على ثورته وحاول حماية قرينه بن علي.
واليوم يتأكد وصول شرارة الثورة إلى ليبيا وانتفاض الشعب الليبي في مدنه وقراه ضد مظالم الديكتاتورية، من أجل نيل حريته وكرامته، التي أديست عبر أربعة عقود ونيف، وظف فيها القائد والزعيم خيرات الشعب لتحقيق مآربه الخاصة .
وفجأة سقط القناع عن شعار"الشعب هو من يحكم نفسه" ليجد الحاكم الفعلي نفسه في مواجهة شعب أراد الحرية والكرامة التي هبت رياحها من الحدود الغربية والشرقية.
واستعاد القائد أدوات القمع والإرهاب التي مارستها أنظمة تونس ومصر، قبل أن تتهاوى عروشها أمام إصرار الشعوب على رحيلها، فعمد الزعيم إلى غلق وسائل الاتصال وتكميم أفواه الصحافة وعزل ليبيا عن العالم من خلال قطع الاتصالات والانترنت.
فأيام العقيد الثائر والفيلسوف الملهم والزعيم الذي لايحكم، أصبحت أيامه معدودة، فقد حاصره الثوار الليبيين من كل فج عميق ودارت الدائرة على كرس نفسه ملكا لشعب بعدما كان ثائرا على الملكية.
إن الزعيم الذي هزأ من الشعب التونسي بعدما فجر أعظم ثورة في التاريخ المعاصر للعرب والمسلمين، أوكل مهمة تهدئة ثولاة شعبه إلى ابنه الذي لا يملك أية صفة رسمية تخوله الحديث في هذا الظرف الدقيق وتحمل التزامات يبدو أن الوقت لم يعد في صالحها، فهو الذي نفض أيديه،قبل أشهر، من مشروع الإصلاح والتحديث.
وشكل خطاب الرجل المرتجل حالة نظام يلفظ انفاسه الأخيرة، فقد اعترف بسقوط مدن في أيدي الثوار وانتشار السلاح، مهددا بقول عرض متأخر أو مواجهة حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، وكأن حاله يردد "إما نحن أو الطوفان".
وبنهاية الرجل سيكون العالم تكون ليبيا قد تخلصت من ديكتاتور جثم على صدور مواطنيها زمنا طويلا وسيكون العالم العربي قد استراح من أحد أكثر زعمائه غوغائية وغموضا، وتكون افريقيا قد سلمت من أحد أكثر زعمائها إثارة للبلبلة والقلاقل فيها.
فشكرا للشعب الليبي على انتفاضته، والتي علمتنا مرة أخرى أن الحياة بدأت تدب من جديد في شعوبنا العربية وأنها قررت تقرير مصيرها واستعادة حرياتها وثرواتها، التي طالما سخرها الحكام كأسهم في برص التمسك بالسلطة، على حساب قضايا الشعوب وهمومها وتطلعاتها للحرية والعيش الكريم.