تعكف الحكومة حاليا على مشروع مدارس الجمهورية الذي يهدف إلى خلق هوية وطنية موحدة من خلال فرض تعليم جمهوري في مدارس الدولة حصرا في المرحلة الابتدائية. ويهدف هذا المقال إلى إثراء النقاش حول هذا المشروع قبل اعتماده لما سيكون له من آثار عميقة على العملية التعليمية في البلد.
وبعد أن نعرف للقارئ مدارس الجمهورية، سنذكر أولا السلبيات المحتملة لتبني هذا المشروع ونعقب عليها بذكر المبررات الموضوعية التي استدعت طرحه.
ماذا تعني مدارس الجمهورية؟
إن مصطلح الجمهورية يأتي في مقابل الملكية. فهي نظام للحكم تكون فيه الكلمة للشعب وليس لعائلة مالكة كما هو الحال في الملكية. ومصطلح مدارس الجمهورية ليس جديدا فهو معروف على مستوى العالم (مصر وغيرها)، ويقصد به مدارس الدولة المجانية التي يتساوى الجميع في فرص الولوج إليها. كما أن مدارس الجمهورية ليست أمرا جديدا على الجمهورية الإسلامية الموريتانية، فمدارس الدولة الموريتانية حاليا هي مدارس جمهورية. الجديد في الأمر هو إلغاء التعليم الخاص/ الحر في المرحلة الابتدائية، وفرض مدارس الدولة في هذه المرحلة على الجميع.
السلبيات المحتملة لتبني مدارس الجمهورية :
مع أن الأهداف نبيلة وهي توحيد الهوية وتحقيق الانسجام الوطني، إلا أن حصر التعليم الابتدائي في مدارس الجمهورية قد لا يكون هو الحل لمشكلة الانسجام، كما أنه لا يخلو من تبعات نذكرها فيما يلي:
حرمان التلاميذ من تعليم أفضل:
إن القضاء على التعليم الخاص في المرحلة الابتدائية سيضرب قطاع التعليم الخاص في الصميم، حيث أن غالبية المدارس الخاصة هي مدارس ابتدائية ، وسيسلب الآباء حرية اختيار أفضل المدارس لأبنائهم، وقد تكون له أضرار لا يمكن تداركها لاحقا. فهذه المرحلة هي مرحلة التأسيس (الذهني والمعرفي والاجتماعي). فهي حاسمة في تكوين شخصية الطفل وتدريبه على المهارات المساعدة في اكتساب المعارف وتوظيفها بشكل فعال.
لا يمكننا أن نسد الباب أمام أب يحرص على تدريس ابنه في أفضل مدرسة، وينفق الأموال الباهظة على ذلك لأنه يعتبر تعليم ابنه أهم استثمار لديه. ومع أن مستويات المدارس الخاصة تختلف لكنها في الغالب أقل اكتظاظا وأكثر أمانا من المدارس الحكومية. وهناك بعض المدارس الخاصة النموذجية التي توفر تعليما عالي الجودة. ومثل هذا النوع من المدارس النموذجية لا يمكن لدولة محدودة الموارد تعميمه، والحل هو ترك المجال للتعليم الخاص ليبدع مع تشديد الرقابة عليه.
عالميا يتفوق التعليم الخاص في أغلب الأحيان على التعليم العام وهذا ما أشار إليه الباحثان لانت بريتشت (Lant Pritchett)، و مارتينا فيارينغو (Martina Viarengo) من جامعة هارفارد ، حيث يقولان: "يعتبر الإنجاز محددا رئيسيا للنمو الاقتصادي والازدهار طويل المدى للأمم، وهناك أدلة على أن التعليم الخاص أفضل مخرجات، وهذا يختلف من دولة إلى أخرى حسب جودة تعليمها العام. وبالرغم من أن الفروق يمكن نقاشها إلا أنه لا توجد دراسة تقول إن التعليم الخاص أقل إنتاجية. وهذا يقوم على قاعدة اقتصادية معروفة وهي أنه كلما فتح باب التنافس وأصبحت هناك عدة خيارات للفرد فإن ذلك ينعكس على الجودة" .
مدارس الجمهورية لاتضمن تحقيق الهدف المنشود :
إن الخطوة الأولى عند رسم سياسة معينة هي تحديد المشكلة المطلوب علاجها تحديدا دقيقا والتأكد من أن السياسة التي تم تبنيها مناسبة لعلاج المشكلة.
فإذا كان الهدف من حصر التعليم الابتدائي في مدارس الجمهورية ضمان أن يدرس الطلبة من مختلف فئات المجتمع في مدارس مشتركة (لزيادة الألفة بينهم) فهذا موجود في المدارس الخاصة، حيث تضم مختلف فئات المجتمع ممن لهم القدرة على دفع مبالغ شهرية مقابل ذلك، كما أن حصر التعليم الابتدائي في مدارس الجمهورية لن يضمن بالضرورة أن يكون هناك طلاب من مختلف الفئات في نفس المدرسة حيث أن الامر مرتبط قبل كل شيء بمكان تواجد المدرسة وفي أي حي أو مدينة تقع؟. أما إذا كان الهدف تلقي الطلبة لمنهج موحد يضمن وحدة هويتهم فذلك أمر له حلول أخرى نوضحها لاحقا.
إن فكرة حظر التعليم الابتدائي الخاص بالكامل يمكن أن تسد الباب أمام كثير من الطلبة وكثير من الإبداع الذي ينمو عادة في جو من الحرية الذي يتيحه التنافس الإيجابي. فالتعليم مثل الصحة تحتاج الدولة فيه لمساعدة القطاع الخاص. لا يمكن للدولة مثلا إغلاق المصحات الخاصة لأنها ستوفر العلاج المجاني للجميع. فكذلك لا ينبغي أن تمنع التعليم الخاص (في أي مرحلة) لأنها ستوفر التعليم المجاني للجميع. الحل يكمن في المنافسة الشريفة. فلا أحد يريد دفع المال مقابل شيء يمكنه الحصول عليه مجانا. فلو وفرت الدولة مدارس منافسة تجذب الناس لانتقل إليها الجميع دون الحاجة لفرضها عليهم.
وضع عبء إضافي على الدولة:
في العام (2011) كان هناك حوالي 300 مدرسة خاصة/ حرة يدرس فيها 120,000 طالب نصفهم في المرحلة الابتدائية، ويعمل فيها 4000 آلاف مدرس وما يقارب من 2000 متعاون ، لذا فإن تبني مدارس الجمهورية يضع على الحكومة عبئا ماليا كبيرا وسيحد من قدرتها على معالجة أمور أخرى أكثر أولوية. ففي الوقت الذي تبني فيه الدول المتقدمة استراتيجياتها على الشراكة مع القطاع الخاص نتجه نحن للانفكاك عنه في مشروع مدارس الجمهورية.
التعليم في مدارس الدولة على حافة الهاوية فلماذا تضع الدولة على كاهلها عبئا جديدا. كان على الدولة الانتظار حتى تحل مشاكل التعليم الجوهرية مثل نقص الكادر البشري، وضعف تكوين المعلمين، والنقص الحاد في عدد الفصول الدراسية وخاصة في الأماكن النائية، والتغلب على المنهجية التقليدية في تدريس المواد العلمية، حيث تدرس بصفة نظرية كما يدرس التاريخ لأن المدرسين لم يتعلموا تشغيل المخابر وإجراء التجارب من خلالها . لماذا لا تخصص الدولة الأموال المرصودة لمدارس الجمهورية لمحو الأمية والوصول للطبقات المحرومة من التعليم بسبب بعد المدارس عنها أو رداءتها؟ لماذا تغلق الدولة مدارس الأغنياء (الحرة) وتتحمل عبء تعليمهم على حسابها الخاص مع أنهم قادرين على دفع التكاليف عن أنفسهم؟
من الأمور المسلم بها أن الكم يتعارض مع الكيف في أغلب الأحيان. فلا يمكن للدولة تعميم تعليم نموذجي على الجميع، سيما إذا كانت مواردها محدودة. يمكن للدولة زيادة عدد مدارس الامتياز تدريجيا حتى تتمكن من تعميمها على كل المقاطعات في مشروع قد يحتاج عقدا من الزمن على الأقل (ما لم تتوفر موارد هائلة تختصر الزمن).
مبررات إنشاء مدارس الجمهوريــــــــــة:
لكن في المقابل، لا يمكننا أن نغض الطرف عن مسألة الهوية والانسجام الاجتماعي. قد يكون من حق كل أب تدريس ابنه في المدرسة التي يرى أنها الأفضل، لكن من واجب الدولة (1) حفظ الهوية الوطنية و (2) الانسجام الاجتماعي:
1. موضوع الهوية :
ظل موضوع الهوية هو العامل الأساسي في عدم استقرار السياسة التعليمية في الجمهورية الإسلامية الموريتانية منذ استقلالها إلى يومنا هذا. فقد شهدت البلاد عدة إصلاحات تعليمية بدءا من إصلاح 1967 و 1973 الذين استهدفا استعادة العربية لمكانتها بعد الاستقلال. والإصلاح التعليمي 1979 الذي قسم التعليم إلى شعبتين منفصلتين فرنسية وعربية، وأخيرا الإصلاح التعليمي 1999 الذي ألغى ازدواجية التعليم . إن محددات الهوية الرئيسية في بلدنا هي الدين واللغة واللحمة الوطنية (العيش في وطن واحد، والوعي بالمصير المشترك). ومع أن هناك اختلافا لغويا بين بعض مكونات شعبنا إلا أن القواسم المشتركة من دين ولحمة وطنية كافية لتأسيس هوية موحدة تساهم في تحقيق الانسجام الاجتماعي. ولعل البعض يتساءل كيف للدولة أن تحافظ على الهوية الوطنية داخل المدارس الخاصة التي يتولى أحيانا الأجانب التمويل والتدريس في بعضها؟
هذا السؤال يطرح نفسه فالدولة لا يمكنها أن تترك الحبل على الغارب لكل من هب ودب يدرس منهجه الخاص لأبنائنا لأن ذلك سيؤثر على وحدة الهوية التي هي الهدف الرئيسي لمدارس الجمهورية. فهناك مدارس خاصة تتهاون بتدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية والتاريخ وتسند المهمة لغير المتخصصين فيخلطون الحابل بالنابل. أعرف شخصيا بعض هذه الحالات في المدارس الخاصة. حتى على مستوى الجامعة أذكر أنني عندما كنت طالبا في الشعبة الفرنسية في كلية القانون في جامعة نواكشوط كان الأستاذ المكلف بتدريس مادة الشريعة الإسلامية ( (Droit Musulmanيسحب دروسه من الانترنت من موقع جامعة فرنسية، دون أن يكلف نفسه عناء تنقيحه، حيث كان يتضمن الكثير من المغالطات.
إذا كان هذا الخلط يحدث في الجامعة وهي مؤسسة حكومية فذلك يعني أن الرقابة الصارمة هي الحل سواء في القطاع العام أو الخاص. يمكن للدولة أن تلعب دور المشرف العام وتفرض معاييرها فيما يخص غرس الهوية الوطنية على كل المدارس المرخصة. يمكن مثلا أن تضع الدولة معايير معينة وتترك القطاع الخاص يشارك في تحقيق هذه المعايير. ويضرب الباحثون مثالا على ذلك مدارس تعليم قيادة السيارات. فالدولة تريد أن يكون الجميع على دراية بقوانين السير ولديهم القدرة على القيادة الصحيحة قبل أن يسمح لهم بالقيادة في الأماكن العامة. لكنها لا تباشر العملية بمفردها بل تضع معايير للاعتماد وتترك مدارس تعليم قيادة السيارات الخاصة يدربون الناس حسب المعايير التي تضعها الدولة، و تتولى هي أمر اختبار المتدربين للتأكد من أنه تم تدريبهم بالشكل المطلوب وأنهم اكتسبوا المعايير المطلوبة . فالتعليم الخاص لا يعطي الشهادات فالدولة تحتكر الشهادات. التعليم الحر وظيفته التحضير الامتحانات الدولة، هذا إذا استثنينا المدارس التابعة للسفارات، حيث أن هذه الأخيرة لديها شهادات مستقلة بها.
ولتحقيق المعاير المطلوبة يمكن للدولة على سبيل المثال فرض الآتي على المدارس الخاصة:
زيادة عدد الحصص الأسبوعية لمواد اللغة العربية، والتربية الإسلامية، والمواطنة.
فرض منهج موحد لتدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية والمواطنة في المدارس الخاصة والحكومية.
زيادة ضارب اللغة العربية والتربية الإسلامية والمواطنة في المسابقات العامة.
فرض معايير صارمة لاختيار المدرسين لهذه المواد.
2. الانسجام الاجتماعي
إن الانسجام الاجتماعي ليس من السهل تحقيقه عن طريق فرض الذهاب إلى نفس المدارس لأن ذلك متعذر. لا يمكن للدولة أن تمزج الأحياء (التركيز السكاني يختلف داخل أحياء العاصمة). ونحن نعلم أن أبناء الأغنياء والطبقات الوسطى من مختلف الفئات يذهبون لمدارس خاصة مشتركة، بينما أبناء الفقراء (من مختلف الفئات) يذهبون لمدارس الدولة نفسها في الأحياء الفقيرة. إذا المسألة بهذه الطريقة ليست مسألة انسجام اجتماعي بين الفئات العرقية المختلفة في البلد، بل المسألة مسألة تقليص الهوة بين الفقراء والأغنياء.
تستطيع الدولة تخفيف الهوة الاجتماعية بين الفقراء والأغنياء من خلال تعزيز البنية التحتية مثل المستشفيات، وبناء شبكات طرق حديثة وإنشاء مصانع وخصوصا للمواد التي نمتلك موادها الخام مثل السمك والحديد والذهب وغيرها. مثل هذه المشاريع هي التي تحقق الانسجام الاجتماعي من خلال خلق فرص العمل وتخفيف أعباء الحياة اليومية عن كاهل الفقراء. عندما يحس الجميع أنه يمكنه العيش بكرامة في وطنه فستتلاشى النعرات العرقية، والطبقية.
ــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
1. محمد لكبيد بن حمديت، التعليم في موريتانيا من المحظرة إلى المدرسة الحديثة، أي مسيرة لبناء النخب؟ المطبعة الوطنية (2011) .
2. Pritchett, L & Viarengo, M (2013). The State, Socialization, and Private Schooling: When Will Governments Support Alternative Producers? Retrieved from 03/082020 from https://www.hks.harvard.edu/sites/default/files/centers/cid/files/272_Pr...(1).pdf