تبدو الساحة السياسية اليوم منقسمة بين فسطاطين أحدها يدعو للتمسك بأجندة الأيام التشاورية وما انبثق عنها من تنظيم لإنتخابات تعيد للنظام رأسه الذي فقده جراء انقلاب السادس من اغشت وتحقق حلم العسكر في التمسك بالحكم،
وبين قوى رافضة لأية أجندة أحادية المصدر والرؤية والتنفيذ، يجمعها رفض هيمنة الجيش على الحياة السياسية والعمل على إحترام قواعد اللعبة الديمقراطية بوصفها الضمان الوحيد للتبادل السلمي على السلطة.
من الواضح للمتتتبع للأحداث السياسية المتلاحقة أن أجندة العسكرالمقترحة، والتي اشتملت على رزمة متكاملة بدء بإطلاق الرئيس المعزول وتنظيم أيام تشاورية ومرورا باستقالة رئيس المجلس الأعلى للدولة واختيار رئيس مجلس الشورى للإشراف على المرحلة الإنتقالية وانتهاء بترشح مفتوح للجميع بمن فيهم أصحاب حركة السادس من اغشت (آب/اغسطس)، جاءت على اثر تفاهم ضمني بين المجموعة الدولية وخصوصا الدول النافذة في الإتحاد الأوروبي وهذا ما يفسر الدعوة التي أطلقها سفراء كل من فرنسا وألمانيا للمشاركة في الأيام التشاورية والإنتخابات المقبلة.
لكن الطريقة التي أدار بها العسكر الحاكم الأيام التشاورية وعدم قبول الحزب الرئيسي للمعارضة بنتائجها جعلت المجموعة الدولية تبدي تحفظات على تنفيذ نتائجها بإعتبارها أجندة أحادية لم تستطع أن تعبر عن إرادة القوى السياسية الفاعلة والمعنية بالأزمة.
من هنا ندرك تراخي المجموعة الدولية الذي بدا لافتا من خلال التأجيل المتكرر للعقوبات الفردية ومنح الزعيم الليبي دور الوسيط وهو المعروف بمعاداته للديمقراطية ودعواته المتكررة لتكريس حكم الفرد والدكتاتورية ، وكان أول الداعمين والمعترفين بالإنقلاب ولم تعرف عنه نجاحات في تعاطيه مع الأزمات الكثيرة في دول الجوار الليبي.
وجاءت زيارته الإستعراضية وحديثه المفاجئ، وقبل أن تكتب الأحرف الأولى لمبادرته، عن ضرورة الرضوخ للأمر الواقع وانتهاز فرصة إنتخابات يونيو، بمثابة تجاوز واضح لدور الوسيط ووأدا مبكرا لمبادرته.
ولعل تصريحات الرئيس الفرنسي "نيكولاي ساركوزي" الأخيرة وتنكره الصريح لأي دور للمعارضة في مواجهة انقلاب السادس من اغسطس تمثل لفتة تضامنية مع ما أعلنه الزعيم الليبي من دعم لأجندة العسكر وتهميش القوى الرافضة للأمر الواقع، مع العلم أن للرجلين ماض قريب يشهد على ذلك التنسيق، حيث كان آخره حل ملف الممرضات البلغاريات وزيارة العقيد المثيرة لباريس والتي عارضتها العديد من فعاليات المجتمع المدني في فرنسا باعتبارها مناقضة لقيم الجمهورية الفرنسية.
ولم تكن تصريحات وزير الخارجية الفرنسي ببعيدة عن هذا التوجه حين اعتبر أن غالبية دول الجوار تقبل بالإنقلاب وأنهم يأخذون ذلك في الحسبان.
وفي ظل هذا التراخي ومحاولات تمييع الملف عن طريق وساطات نتائجها معروفة مسبقا، كان آخرها المحاولة السنغالية، لم يبقى أمام القوى الرافضة للأمر الواقع إلا التصعيد وتكثيف التنسيق خصوصا بعد دخول حزب "تكتل القوى الديمقراطية" لخلق ديناميكية جديدة تجعل من الإنتخابات القادمة أداة لتأزيم الوضع بدل المساعدة على حل الأزمة مما قد يدفع المجموعة الدولية لمراجعة موقفها، ليكون متناسبا مع موقف القوى الوطنية الداعية لإحترام الإتفاقيات التي باتت تحرم الإستيلاء على السلطة بالقوة، وخصوصا أن هذه المجموعة لديها سوابق والتزامات مع المنظومة ذاتها.
إن المجلس العسكري الحاكم يراهن على تللك الإنتخابات بوصفها الطريق الوحيد لاستعادة الشرعية الوطنية والدولية للخروج بالبلاد من وضع اقتصادي بات ينذر بمخاطر جمة حيث لم يعد باستطاعتها أن تتحمله في ظل ظروف استفحال الأزمة المالية العالمية والحصار الدولي وغياب أية استراتيجية وطنية لمواجهة النتائج السلبية على الأرض.
فتخفيض ميزانية المصروفات فاقم من مشاكل الفقر وسياسة تخفيض الأسعار لم تؤتي أكلها رغم انخفاض السلع الأساسية بفعل زيادة المنتوج الزراعي وضعف الطلب على المواد الأساسية نتيجة للأزمة المالية التي يمر بها العالم. إن سعي المجلس العسكري لجعل الإنتخابات القادمة البوابة التي يشرف منها على العالم مازالت تواجه عقبات يتطلب تذليلها على مستوى الداخل حيث تتوي القوى المناهضة اعداد برنامج نضالي لمواجهة شاملة على كامل التراب الوطني، وعلى المستوى الخارجي ما زالت المنظومة الدولية الأساسية تمانع في قبولها بوصفها أجندة أحادية لا تلبي شروط الحل التوافقي الضروري واللازم دوليا.
إن الإصرار على تنفيذ الأجندة الأحادية وتجاوز شركاء الوطن والبحث عن محور بديل في السياسة الخارجية،، لا يمكن إلا أن يعمق الأزمة الراهنة ويفاقم من مشاكل بلد ضعيف ليجعل منه ساحة للصراع بين قوى إقليمية ودولية لها أجندات تختلف عن الأجندة الوطنية. إن على الساعين لمحاربة الفساد أن يدركوا أن للفساد أبعادا متعددة وأخطرها الفساد السياسي لانه قد يدفع ببلد كامل إلى هوة سحيقة في ظرف قصير تغيب فيه الحكمة وصوت العقل عن ادراك مصلحة الوطن، وأن أول خطوة على طريق الإصلاح هو إصلاح ذات البين واالعمل على تقريب الهوة و إحترام القواسم المشتركة بين أبناء الوطن الواحد بما فيها القانون المعمول به والمؤسسات الشرعية.