إسرائيل تعودت على العدوان والإجتياح وإرتكاب المجازر في حق الأبرياء من المدنيين كبارا كانوا أم صغارا ، نساء أو رجالا، لا تفرق في حروبها بين البشر والحجر ولا ترعى قانونا ولا عهدا، ذلك هو ديدنها وتلك هي طبيعتها العدوانية والتوسعية، لكن الجديد في الأمر هو وقوف دول عربية هامة إلى جانب العدوان الإسرائيلي منذ حرب تموز 2006 ووصولا إلى حرب غزة الراهنة.
لقد رفعت تلك الدول،إبان حرب لبنا ن الأخيرة، شعار مواجهة النفوذ الإيراني الشيعي في المنطقة العربية، وحملت حزب الله المسؤولية عن تلك الحرب وما ألحقته بلبنان من دمار، مستخدمة كل وسائل الدعاية الطائفية ومستفيدة يومها من الحرب الطائفية التي تدور في العراق بين السنة والشيعة بدفع وتشجيع من الإحتلال الأمريكي في مواجهة إستعصاء المقاومة العراقية التي أنهكته حتى كاد يعلن عن هزيمته.
واليوم نجد نفس الدول تحمل المقاومة الفلسطينية نتائج العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الصابر بعدما منحت الإسرائليين هدنة، لأول مرة لمدة ستة أشهر، عانوا فيها من حصار ظالم بدعم عربي أحيانا كثيرة من خلال تحالف ثلاثي بين السلطة الفلسطينية في رام الله ومصر وإسرائيل لمنع فتح المعابر إلا بشروط قاسية كان يراد بها القضاء على المقاومة، من خلال منعها من السلاح وبالمقابل تزويد عصابات تتبع للموساد لتصفية آخر مواقع الممانعة في أرض الرباط.
لقد مثل إجتياح إسرائيل لقطاع غزة بداية النهاية للنظام العربي المترهل الذي أنهكته الخلافات وقضت عليه أحداث 11 أيلول 2001، حيث استسلمت أهم مراكز قوته للإرادة الأمريكية تحاشيا منها للحروب التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي، كما كان إحتلال العراق وإغتيال الرئيس صدام حسين بمثابة رصاصة الموت التي أطلقها الأمريكيون على هذا النظام المتردي.
ولا غرابة أن تقف اليوم كبرى الدول العربية لها تاريخها النضالي موقفا مدانا من طرف الشعوب العربية، مشكلة بذلك قطيعة مع مواقف رجالاتها التاريخيين ممن واجهوا الكبرياء الأمريكي والغطرسة الإسرائيلية بكل شجاعة وحكمة.
إن وقوف هذه الدول العربية إلى جانب العدوان الإسرائيلي هو محاولة منها لإخضاع مشروع المقاومة الفلسطينية لخيارات السلام الموهوم بإعتبارها نشازا في زمن الإستسلام العربي للمشروع الصهيوني، لكن هذا الإنتكاس في موقف الدول العربية ذات الثقل السياسي والمالي والإستراتيجي بالإضافة إلى تراجع دور منظمة التحرير الفلسطينية وظهور دور بارز للمقاومة الإسلامية ، قد سمح بظهور دول إسلامية لها ثقلها العسكري والإستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم لتملأ ذلك الفراغ الناشئ عن تغيب الدول العربية عن القيام بواجبها تجاه القضية الفلسطينية والدفاع عنها في مواجهة آلة الدمار العسكرية الإسرائيلية المدعومة أمريكيا.
إن ظهور إيران كدولة داعمة لمشروع المقاومة في مواجهة الإحتلال الإسرائيلي بالإضافة إلى الدور التركي المتنامي ربما يشكل تحديا كبيرا للدور التقليدي المناط بالجامعة العربية ولدور العرب عموما في مسألة الصراع مع الكيان الصهيوني مما يضع القضية الفلسطينية في إطار الصراع العالم الإسلامي والصهاينة وهو أمر ظلت إسرائيل تتحاشاه وتخافه، لكنها اليوم بتصرفاتها ومحاربتها للظاهرة الإسلامية في فلسطين وتشجيع المجتمع الدولي للتحاور معها، وقعت في فخ الصراع الإسلامي –الإسرائيلي، الذي سيعطي دفعا كبيرا ومتميزا لطبيعة هذا الصراع الذي حشر أولا في الإطار العربي ثم تم تقزيمه إلى أن أصبح قضية الفلسطينيين بدعوى أن العرب لا يمكن أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك.
فالمواجهة المكشوفة مع حماس في غزة، أعطت القضية الفلسطينية بعدا إسلاميا، من خلال تدخل دول إسلامية كبيرة، لملإ الفراغ الناشئ عن استقالة الدول العربية، من خلال محاولاتها أن تلعب دورا رئيسيا في وقف الحرب على غزة والبحث عن حل للأزمة القائمة.
وكاد العرب يغيبون لولا دور الوسيط الذي منحته الدول الغربية على شكل مابات يعرف ب "المبادرة المصرية" اعتبارا لموقعها الإستراتيجي ولدورها كوصية على معبر رفح.
فلم يكتف العرب بإستغلال القضية الفلسطينية لتحقيق مكاسب لبلدانهم على حساب الدم الفلسطيني والقضية المركزية للعرب والمسلمين، بل تجاوزوا ذلك إلى التآمر عليها من خلال تقديم الدعم السياسي والطلب من إسرائيل الإجهاش علي آخر معقل لها.
لقد باتت هذه الأنظمة تعتبر أن أي حل لهذه القضية أو تحقيق للسلام الموعود لا يمكن تحقيقهما إلا بعد القضاء على مواقع الممانعة كما حاولوا من قبل مع حزب الله بوصفه الجبهة المتقدمة والقوية في مواجهة إسرائيل، لكنهم فشلوا، وهم اليوم يعاودون الكرة مع حماس وقوى الجهاد في غزة تحت ذرائع شتى أهمها إعطاء دور ريادي لجماعة عباس بوصفها قادرة على التعامل مع المجتمع الدولي ومع الرباعية ومع مطالب إسرائيل، لكن شعار الطائفية إنكشف أمره،هذه المرة، وأصبح موقف هؤلاء واضحا لجميع العرب والمسلمين وحتى لشعوب العالم الحربأنهم ضد قوى الممانعة وأن لديهم مشروعا يتناقض مع أهدافها وهو تصفية القضية الفلسطينية ظنا منهم أنهم بذلك سيكسبون الود الأمريكي وسيمنحون أنظمتهم مزيدا من العمر.
إن الحرب على غزة أثبت أن النظام العربي، المتهالك أصلا، لم يعد موجودا لأنه لم يعد بإمكانه أن يعقد قمة في أحلك ظرف تمر به القضية الفلسطينية كما وصفه الملك الأردني معتبرا إياه "مؤامرة لتصفية هذه القضية " وإنما أختار وزراء خارجية الجامعة العربية أن يشيعوا هذه القضية إلى مجلس الأمن الذي لم يعرف عنه دعمه لها مفضلين ذلك على إتخاذ قرارت ولو على مستوى أحادي لمنع إسرائيل من الإستمرار في عدوانها على أهلنا في غزة.
إن وقوف الشعوب العربية والإسلامية والعالمية ضد العدوان على غزة وثبات المقاومين على أرض المعركة وظهور دور تركي إسلامي شكل إحراجا كبيرا لأنظمة "الإعتدال العربي" مما دفعها للتعاطي بإيجابية مع مطالب أهل غزة في فتح المعبر والسعي مع المجتمع الدولي والأطراف الفلسطينية الفاعلة على الساحة لإيجاد مخرج لوقف هذه الحرب.
إن العرب بتخليهم عن ورقة المقاومة التي حققت في لبنان وفلسطين ما عجزت عنه الأنظمة العربية مجتمعة، إنما يتخلون عن أهم ورقة حققها العرب في نضالهم الطويل مع هذا الكيان الغاصب لأرض فلسطين وهم بذلك يصدقون المقولة اليهودية الشهيرة"العرب لا يقرأون وإذا قرأوا لا يفهمون وإذا فهموا لا يطبقون" .
إن المقاومة في لبنان والعراق وفلسطين تشكل اليوم قوة الردع الوحيدة التي يمتلكها العرب في مواجهة الغطرسة الصهيو-أمركية، مما يستوجب التمسك بها كجزء من الإستراتيجية الدفاعية العربية في مواجهة الأطماع الإسرائيلية ، فلولا المقاومة اللبنانية لوصلت الدبابات الإسرائيلية إلى بيروت مرة أخرى في حرب تموزمن عام 2006، ولولا المقاومة العراقية لما قررت أمريكا الخروج من العراق بعد خمس سنوات من الإحتلال لأهم دولة عربية ، ولولا المقاومة في فلسطين لماخرجت إسرائيل عام 2005 من قطاع غزة.
إن إستفادة المقاومة اليوم من البعد الإستراتيجي الإسلامي إنما يقوي ويدعم المواقف العربية ويمنحها القوة والصلابة في مواجهة مشاريع التقسيم التي تنفذها وترعاها إسرائيل بوصفها الممثل الشرعي والوحيد لقوى الإستعمار التقليدي في المنطقة العربية، مما يستوجب من العرب بلورة سياسة تكاملية مع هذا المعطى الجديد بدل التنافر معه.
أما الثلاثي الإسرائيلي أولمرت-ليفني-باراك فسيكتشف في نهاية المطاف أنه وقع في فخ المقاومة الذي هرب منه شارون يوم قرر الخروج من غزة بعدما جرب كل وسائل الدمار مع أهلها ولم تنفعه، وأن خروجه كان إعترافا بقوة المقاومة التي أزدادت خبرة وصلابة بعد حرب لبنان الأخيرة، ولعل قرار مجلس الأمن رقم 1860 ليس إلا إعترافا ضمنيا بحتمية إشراك المقاومة في أي حل قابل للتطبيق على الأرض من خلال "المبادرة المصرية" بإعتبارها آلية تنفيذ هذا القرار، وبذلك يعود الأمر للحديث مجددا عن هدنة مرتبطة بفتح المعابر بشروط المقاومة وتكون إسرائيل قد خسرت الرهان على مجلس الأمن في استصدار قرار يستجيب لمطالب إسرائيل التي دخلت من أجلها هذه الحرب.