فإمَّا صُلحٌ  مأجورٌ أو نَطحٌ معذورٌ (2) / محمد الهادي ولد الزين ولد الامام

أصبح مجتمعنا يألف ويتعايش مع تحولات مريبة على مستوى منظومة القيم والأخلاق، منذ فترة غير وجيزة،  إذ أصبح يتماهي مع كل شاذٍ من الأخلاق و وافدٍ من القيم، ولو تعارض مع قيم وأخلاق مرجعيته الثقافية والدينية، مما يثير التساؤل عن الدوافع والأسباب الموضوعية وراء شيوع هذا النمط من التحول المريب . ولا شك أن أي مقاربة للبحث في هذا الإشكال ستهتم بدراسة:

 

مظاهر وأبعاد هذه الأزمة الضاربة اليوم في عمق الحياة العامة للمجتمع.

أسباب ضمور دور المؤسسات التربوية (الأسرة والمدرسة والإعلام والمجتمع ).

سبل التشبث بقيمنا الثابتة ومثلنا العليا وتفادي استمرار السقوط في هاوية سلوكيات سافلة.

أولاً: ظل المجتمع الموريتاني منذ استقلاله عن إدارة المستعمر الفرنسي سنة 1960 يُسيَر عبر أنظمة هجينة بين الديمقراطية والدكتاتورية، والعسكرية والمدنية ، تتعاطى على إدارة شأن دولته "نخب وطنية" يتنازعها التقليد والتبعية والانبهار بالغير إلى درجة استلاب الإرادة والشخصية الثقافية ، والغوص في وحل الولاءات الضيقة محليا إلى  حد العبث بالمشتركات والدوس على المصالح العامة.

وقد أدت ممارسة الحكم هذه الغير متسقة في الغايات والأهداف والغير مرتكزة على الواقع كتجربة محلية مستقلة تنطلق من حاجات ومتطلبات الواقع لتحديد أولويات التنمية،  إلى شيوع ظاهرة الانفصام الشخصي والفكري إلى حد الضياع ، وأججت صراع  الولاءات إلى حد التطرف، وأحدثت تحولات أدت إلى أزمة أخلاقية مستحكمة، حيث طغت المادة على النفوس وأصبحت الغاية تبرر الوسيلة في كثير من الأحيان، وأصيبت قوى المجتمع بشلل عضوي في أجهزتها الحسية وملكاتها الإبداعية والنفسية يعوقها عن التحرك في الاتجاه  الصحيح،  وشاعت في المجتمع قيم غير مألوفة !  فلم يعد للعهود معتبر ولا للالتزامات معنى ، وطغت ثقافة  قلب الحقائق في كل مظاهر الحياة، فانعدمت الثقة بين أفراد ومكونات المجتمع، وحدث تحول في معنى ومفهوم كيان الدولة تسبب في طمس بصيرة المواطن المسكين حتى ارتبط بمحيط إحساسه الذاتي وانحصر همه في دائرة المصالح الضيقة.

ثانياً: تعد المؤسسات والنظم التربوية المسئول الأول عن تطوير أو تخلف المجتمعات، فالمؤسسات التربوية من أسرة ومدرسة ومجتمع وإعلام هي أهم وسائل  تنمية الشخصية الإنسانية من جميع جوانبها العقلية والنفسية والاجتماعية والثقافية،  وذلك وفقا لمعايير الجماعة السائدة وقيمها واتجاهاتها وأساليبها ومناهجها في تناول الموضوعات المتعلقة بأمور المجتمع المصيرية ومشكلاته الرئيسة وغاياته في التنمية والحياة.

فكل مكون من مكونات هذه المنظومة التربوية  بوصفه نظاما اجتماعيا و تربويا وثقافيا يتأثر ويؤثر فيما عداها من الأنظمة الأخرى سلباً أو إيجاباً،  فكلما فسد مكون  فإن فساده  يتردد صداه داخل المنظومة بأسرها،  ثم ينعكس تأثيره على الأوضاع العامة للمجتمع؛ ( مشهده السياسي وإنتاجه الاقتصادي ومعاييره الأخلاقية ومثله وقيمه...) وبفساد الوضع الاقتصادي والسياسي تختلف المعايير وتختل القيم و تتلاشى المنظومة وينهار المجتمع.

ثالثاً:  ندرك جميعا مدى الخطر الذي  يترتب على فساد منظومة القيم والأخلاق  وضمور دور المنظومة التربوية على  هذا المجتمع الهش، الذي تتربص به عوامل العصر الدوائر، ويتحين له الانتهازيون الفرص لمضاعفة آلامه  وتعميق جراحه، فكل مرحلة زمنية من مراحل تعاقب نخبه على حكمه يزداد  معاناة  في كرامته و تفريقا لوحدته، وتمييعا لهويته...!!!

 وبعد ألوان من أنظمة حكم "النخبة" هذه..! حتى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}...! أما آن لنا أن نعي هذه الحقيقة ونستدرك الفسحة المتاحة قبل فوات الأوان...؟

إن الالتزام بوسائل المعالجة يبدأ بمستوى الفرد أياً كان موقعه، فلو قام كل فرد منا بمسئولياته الاجتماعية على الوجه المطلوب أو المقبول، وحرص على أداء واجبه اتجاه وطنه ومهنته، لصلح المجتمع وعاش كل فرد من أفراده في سعة من رزقه ورغد في عيشه...!!!

إن الحاجة اليوم إلى المعايير والقيم الأخلاقية قد أصبحت ملحة وضرورية أكثر مما كانت عليه في أي وقت، ذلك أن

القيم هي المقوم الأساسي القادر على توجيه المجتمع توجيها سليما.  يقول سير ريتشرد لفنجستون وكيل جامعة اكسفورد سابقا:(إن الحياة التي لا معايير خُلقية لها هي من بين جميع ألوان الحياة أعظمها حقارة وجدبا وهي مريرة الوخز في حنايا الضلوع حتى وإن كانت حلوة المذاق على الشفاه). ويقول أحمد شوقي:

والصدقُ أرفع ما اهتز الرجالُ لهُ                   وخيرُ ما عوّدَ أبناً في الحياةِ أبُ

وَإِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْــــــلاقُ مَـــا بَقِيَتْ                   فَــــإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا.

والتربية القائمة على منهج يسعى إلى تنمية العقل تنمية متكاملة، وخدمة غايات المجتمع، والبحث العلمي والتفكير النافع، وتعزيز الوازع الدين و تنمية الوازع الوطني، وبناء الإرادة لدى الفرد في امتلاك حق التعبير وحرية الاختيار وفق ضوابط  نهج الوسطية  والاعتدال والموضوعية، ((لا إفراط ولا تفريط)). ثم الاستفادة من الدور الذي يقوم به الإعلام  اليوم بكل أشكاله في التوجيه والإرشاد ، ونتيجة للتطور في وسائل الاتصالات، فتأثير الإعلام أصبح  يفوق كل وسيلة تربوية، ولذا فلإعلام يلعب دوراً فاعلاً في التنمية بمختلف شعبها خصوصا إذا ما استُغِل استغلالا حذراً ومهنياً في سبيل النهوض بالمجتمع  ولعب الدور الذي عليه أن يؤديه.

 وسيظل بسط سلطان هذه المعاني والقيم يتطلب إرادة وعزماً من لدن سلطة متمكنة قادرة على  إيجاد حلّ جذري لمشكلة تطبيق مبادئ سيادة الدولة واحترام النظم والقوانين العامة. ومن غير المنطقي أن يتأتى ذالك في ظل تخبّط «الأعمى" في ميادين سباق "النخب" على التمسّك بزمام السلطة والحكم، والعناد والتجاذب والعسكرة خارج الفريق حفاظاً على (....) أو خوفاً من (....)، بدلاً من التعاون على حلّ المشاكل العالقة بشكل سلمي، و التنسيق في خدمة الشعب وترسيخ المعاني والقيم الإنسانية.

وحين تعي النخبة بأنه لا مستقبل لدولة تقاد بمنطق الجشع هذا والتقاتل على الفتات وهدر الطاقات وتبديد الثروات في بلاد فقيرة، تزخر بالخيرات!  يتحتم تحديد ملامح مشروعها المجتمعي ((... وسعيا لبلوغ هذا الهدف فقد تقدمت إلى الشعب بمشروع للدولة والمجتمع سيمكننا بحول الله من العبور بالبلاد الى واقع افضل خلال السنوات الخمس القادمة، ذلك المشروع الذي يترجم رؤية منهجية تراعي معايير الشمولية والطموح والواقعية في آن معا وتؤسس لمستقبل واقعي عبر التركيز على معالجة مكامن الخلل ومواطن النقص واجتثاث الفوارق والقضاء على مظاهر التخلف...)) الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني 02/أغشت/2019 .

ذالك المشرع الذي يتطلب تحقيقه حزمة من الشروط أهمها: الوعي بأن التقدم نحنو الأفضل يستوجب التحقق من تفادي الأسوأ.

فأمام واقع كهذا الواقع يجب العمل على إيجاد آليّة دقيقة وآمنة تساهم في الحفاظ على سياسة ومبادئ ممارسة الممكن الأسلم (الصلح: والصلح خير)، بغية تأمين طريق سالك  للتفاوض كأداة لحل المشاكل العالقة بين الفر قاء، وتذليل عوائق التنمية .

فتقديم الحلول السياسية كخيار أول في ممارسة الحكم  بدلاً من اللجوء إلى حكم السلطة لفرض خيارات غير سياسية، يؤدي في النهاية إلى العنف والتسلّط  والأنانية...! وشرط التسوية العدل،  ومقوم الانحراف اللين، وجراحة استئصال سرطان الفساد تخصّصٌ واحتراف وعملية بالغة الدقة وعسيرة في مجتمع تعود مساراً مختلفاً حتى عششت في مختلف أجزاء كيانه خلايا الخبث.

 لكن الطموح  والسعي  إلى الحركة في اتجاه التقدم يستوجبان الشروع في الخطوة الأولى، ولن تكون سهلة التحقيق مطلقاً،  لكنها ممكنة إذا ما توفّرت إرادة التغيير وتحولت بعض الجهود الخيّرة إلى أدوات مفيدة في عملية الإصلاح، وهذا هو الشرط الثاني، فالإصلاح  مرهون بدور القوى الفكرية والمنطقية في الجماعة، لأن العمل بمنطق السياسة التي تقدس الجماعة وتلغي الأنا  مطلب تنموي بامتياز وشرط في سلامة خطى ومنهج التغيير.

وأما الشرط الثالث  فهو الدقة في تحديد نقطة البداية والتأكد من سلامة الخطوة  الأولى في اتجاه بسط سلطان المعاني والقيم البديلة لتأكيد عدم المماثلة وضمان سلامة المرور عبر المنعطف في اتجاه التغيير المنشود بإرادة الصلح لدى الأطراف على أساس مبدأ المصالحة والمخايرة  دون اللجوء إلى إظهار  مساوئ  أو كشف مستور وذلك خيار الصلح المأجور.  أو عن طريق التحكم في أزمة القيادة والتوجيه للتمكين للمشروع الذي يجب أن ينطلق، فلم يعد في المطاق تأخيره أو إفشاله.

وهذا ما سنتناوله ضمن بحث دوافع ومبررات خيار النطح المعذور في الحلقة الثالثة (3) من:  فإمَّا صُلحٌ  مأجورٌ أو نَطحٌ معذورٌ...

 

17. أغسطس 2020 - 19:07

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا