موريتانيا بين عسكرة النظام ومخاوف العقوبات الدولية / سيدي ولد سيد احمد

 

إن أحداث 6 اغشت أثبت أن إدارة المرحلة الإنتقالية كانت ترتكز على إستراتيجية أساسها تحكم العسكر في مفاصل الحكم في موريتانيا ولم تكن قطيعة مع الديكتاتورية ولا تمهيدا للتبادل السلمي على السلطة كما أوهمنا أصحابنا بإجرائهم لتعديلات دستورية وما أسموهم يومها بالأقفال الخمسة لمنع الإستمرار في الحكم لمدة غير محدودة  والحيلولة دون الإنقلابات.

وإذا استثنينا إشراك كل أطياف المجتمع المدني من أحزاب ومنظمات وصحافة في الأيام التشاورية والتمويلات المتحصل عليها وخلق مناخ للحوار مع القوى التي كانت توصم بالتطرف فإن كل إفرازات تلك المرحلة من إنتخابات محلية وبرلمانية ورئاسية كانت كلها تؤسس لنظام عسكري في ثوب مدني ديمقراطي سرعان ما تكشفت أوراقه وعجز أصحابه عن إيجاد صيغة متماسكة لديمومته، وهو ما يفسر عدم نضج مشروع إنقلاب 2005 وتهاويه في فترة قصيرة محدثا بذلك أكبر أزمة سياسية مرت بها البلاد منذ الإستقلال.

إن عدم نضج ذلك المشروع ووقوع أصحابه في تناقضات كبيرة بين الإلتزامات التي قدموا للمجتمع الدولي وبين التطبيقات الميدانية التي أفرزت هوة كبيرة بينهم، هو ما تدفع اليوم موريتانيا ثمنه من زيادة حدة الإنقسام بين مشروعين لم تتضح معالمها بعد لكنهما الآن يتخندقان في ثنائية الشرعية الدستورية ودعوة العسكر للتحكم في المشهد السياسي.

فإذا كان نظام ما بعد الفترة الإنتقالية فشل أمنيا وسياسيا وإقتصاديا، فإن لذلك الفشل أسبابه الموضوعية داخليا وخارجيا:

على المستوى الداخلي:

غياب التجربة السياسية الناضجة وعدم وضوح الصلاحيات الدستورية لرئيس الدولة في مقابل من جاءوا به إلى الحكم وعدم وجود أغلبية رئاسية حقيقية من نواب وشيوخ وأحزاب سياسية تشكل قوة ومرتكزا أساسيا لتنفيذ تعهداته الإنتخابية وعدم إنضباط الولاءات البرلمانية، حيث أصبح البرلمان منتجعا للحل والترحال بين الأحزاب في رحلة لم تنته بعد،  فيما يذكرنا بتقلبات البرص، وهو مشهد أسهم فيه النواب المستقلون وعدم إرتباطهم الوظيفي بأحزابهم.

إن هذا المشهد الغريب الذي يكاد يجعل من النواب أسهما في برصة برلمانية إذا جاز التعبير، إعتمد عليها نظام الرئيس المنتخب قبل سقوطه وهوالذي جاء من خارج المشهد الحزبي والسياسي، وتحولت بعيد الإنقلاب الأخير إلى أداة في يد عسكر هم من صنعوا غالبيتها في مسلسل المرحلة الإنتقالية تارة بإسم المستقلين وتارة بإسم أحزاب أنشأوها أو قريبة منهم، وكذلك كان ضعف التجربة وغياب الأولويات وتجاهل الظروف المعيشية للسكان سببا في خلق أزمة ثقة بين النظام وقاعدته التي منحته الأصوات من أجل برنامج يسهم في رفع مستواها المعيشي والتعليمي والصحي، تجلت في أحداث ثورة الخبز التي إمتدت من باسكنو شرقا إلى انواذيبو غربا مرورا بكنكوصة وانواكشوط.

وعلى المستوى الخارجي:

كان لإرتفاع سعر المواد الغذائية المشتقة في أغلبها من القمح الذي أصبح يستخدم في إنتاج الإيثانول وإرتفاع سعر برميل النفط من 45 دولارا إلى 149 دولارا أثرا بالغا في الأزمة الغذائية والمعيشية التي لحقت بالبلاد خلال تلك الفترة رغم المساعي الكبيرة التي بذلت من خلال البرامج الإستعجالية والبحث في تحسين الموارد الزراعية والحيوانية ووعود نادي باريز بتوفير أزيد من ملياري دولار.

كل هذه العوامل مجتمعة داخليا وخارجيا أفقدت النظام قدرته على العطاء وعلى التجاوب بجدية وإيجابية مع الأزمات التي مرت بها البلاد في ظل تلك الفترة رغم التجاوب العالمي مع التجربة الديمقراطية في موريتانيا وإعتمادها كنموذج في إفريقيا والعالم العربي بالرغم من هشاشة بنيتها ومرتكزاتها المنهجية والعملية، التي كان بالإمكان التحسين من شروطها ووضعها في إطار تجربة ديمقراطية حديثة تتحسن بمرور الزمن بدل الإجهاش عليها بإنقلاب عسكري،  حاول أصحابه، الذين يعتبرون أنفسهم رواد الديمقراطية، الإيحاء بأنه تصحيح لمسار ديمقراطي بنوه منة منهم  لهذا الشعب .

ويعتبر تشكيل جبهة عريضة من أحزاب وطنية ونقابات عمالية وأصحاب رأي لمناهضة هذا الإنقلاب ومصادرة حق الشعب في تطوير أدواته النضالية لتصحيح مسار الأنظمة كما تحقق خلال ثورة الجياع في شهر نوفمبر 2007، مكسبا هاما على طريق وعي الطبقة السياسة وتمسكها بمبدأ التناوب السلمي على السلطة عبر صناديق الإقتراع مهما كانت المبررات والدواعي التي قد تدفع بالبعض لإستخدام القوة لتغيير النظام، ويبقى المثال الأمريكي شاهدا حيا على حيوية النظام الديمقراطي وقدرته على التغيير في الوقت المناسب وبإنتهاج الطرق السلمية مهما كانت القوة التي يمتلكها الجيش.

وفي المقابل فإن الذين استولوا على السلطة بالقوة وقعوا في تناقض واضح مع تعهدات أطلقوها في الفترة الإنتقالية وأشهدوا عليها المجتمع الدولي بأن لاعودة بعد تاريخ 19 ابريل 2007   لدورة الإنقلابات وبإحترام إرادة الشعب في إختيار من يمثلونه في الحكم من خلال توقيعهم على إتفاقيات دولية تحرم الإستيلاء على السلطة بالقوة.

إن هذا التراجع وضع بلدنا أمام تحديات حقيقية في مواجهة مطالب مشروعة من المجتمع الدولي للإلتزام بتعهداتنا وبالإتفاقيات الدولية التي ألزمنا أنفسنا بها في المرحلة الإنتقالية لضمان إعتراف دولي بنتائج تلك المرحلة وهو أمر واقع أيضا ضمن  لائحة الإتفاقيات التي أعلن المجلس الأعلى للدولة عن الإعتراف بها ضمن بيانه الثاني.

إن الذين وقفوا مع هذا الإنقلاب إما قوى تقليدية تريد تحقيق بعض المكاسب الظرفية وإما قوى سياسية تراهن على الأنظمة الإستثنائية لتحقيق ما عجزت عنه عبر صناديق الإقتراع لفرض الأمر الواقع من خلال الإلتفاف على إرادة الشعب كما هو حال أصحاب الدعوات القومية الذين وجد أغلبهم ضالته في هذا الإنقلاب،  بالإضافة إلى الزعيم التاريخي للمعارضة الذي تحول للأسف  إلى رافعة للقضاء على الحلم الديمقراطي في بلد متعدد الأعراق لا يمكن أن يحكمه إلا نظام يسمح بالحد الأدنى من المشاركة السياسة لضمان عدالة في التمثيل بدل مصادرة مراكز القوة المتنوعة في المجتمع. وتقرير مصير شعب دون إشراكه.

إذا كان هناك من يروجون للتدخل الدولي ويسعون جاهدين لفرض عقوبات على موريتانيا فإن هناك من ينظرون لقدرة هذا البلد على اإكتفاء لم يتحقق خلال نصف قرن من دولة الإستقلال،  وفي وقت أصبح العالم فيه عبارة عن قرية إفتراضية يديرها نظام العولمة الجديد، مما قد يؤدي بنا إلى أخطاء استراتيجية في معالجة مطالب المجتمع الدولي.

إن الشعب الموريتاني، وخصوصا الطبقة الأكثر هشاشة، هو من سيدفع ثمن أي عقوبات قادمة أو حصار على هذا الوطن وليس الذين  يملكون كل أدوات الرفاهية ورغد العيش، وعليه فإن كل النخب السياسية مدعوة اليوم للبحث عن مخرج مشرف للجميع لتفادي مزيدا من المآسي لشعب تحمل كثيرا في سبيل أن يعيش كريما ولا يمكن الزج به في مغامرة غير محسوبة النتائج إذا كان فعلا هدفنا هو تحقيق مصالحه والبحث له  عن موقع متقدم في ركب الأمم المتحضرة، فالحوار هو الجسر الوحيد الممكن للعبور إلى التعايش بين أبناء الوطن وليس التهميش والإقصاء والتخوين وبناء جدر من عدم الثقة والإحترام بين مواطني الدولة الواحدة.

والبداية تكون بوقف كل حملات التشويه المتبادلة بين الطرفين وإحترام حقوق الشراكة من خلال إستعادة حق التعبير والتجمع والحصول على لقمة العيش في وطن لا نملك غيره لنعيش بكرامة، فكل أراضي  الدول ومياهها باتت محروسة، ولم يعد بقدور الغالبية تطبيق مقتضى الآية الكريمة: "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها"، ونتمنى أن يبقى الوطن غفورا رحيما كما وصفه الملك المغربي الراحل الحسن الثاني وأن يكون بمقدوره أن يسع ويتسع للجميع من خلال تحقيق الإصلاح المنشود.

إن الإصلاح يمر حتما عبر بوابة إحترام الدستور وخيارات الشعب وتقديم برامج مفصلة لتحسين فرص اإختيار الناخبين وإحترام التعهدات الإنتخابية وإستقلالية المؤسسات الدستورية بما فيها القضاء وإرساء حقوق المواطنة وإعطاء كل ذي حق حقه، من أجل أن لا يكون الغبن هو سيد الموقف بين أبناء الوطن الواحد،  أما أن نلجأ إلى الطرق والتجارب السابقة لتطبيقها من جديد بإسم شعار الإصلاح كما كان شعار العدالة والديمقراطية سبيلا إلى تدمير البنى الإقتصادية للدولة ونهب المال العام وإساءة توزيعه، فتلك خدعة لن تنطلي مرة أخرى على المؤمنين من هذا الشعب.

10. نوفمبر 2008 - 0:00

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا