رصيد الخواطر (8) وأد الطموح ... كيف يحدث عندنا؟ / د.محمد محمود ول سيدينا

زرته آخر مرة في مكتبه منذ ثلاث سنوات ليسلمنى مساعدة في بناء مسجد الإحسان في حي الأطر، كان رحمه الله  بشوشا متواضعا و محبا للخير كعادته في كل فرصة ...و كان المكتب الذي زرته فيه هو المكتب نفسه الذي أتيته فيه منذ ما يقارب عشرين سنة خلت و  كنت وقتها في مرحلة الإكتتاب ... لم يتغير شيء... لا المكان و لا صاحب المكان... أما جيران مكتبه منذ عشرين سنة فقد رُحِّلوا ... لقد إستلتهم يد الترقية واحدا تلو الآخر من حول صاحبي كما تُسل الشعرة من العجين ... و بقي صاحبي في مكانه يستقبل الوافدين الجدد بإبتسامته المعهودة و أريحيته الطافحة بينما يغادره المُرَقّوْن الى مواقعهم الجديدة دون وداع... لست أدري ما هي المحددات التي على أساسها أخطأت يد الترقية صاحبي رحمه الله فبقي يراوح مكتبه أكثر من عشرين سنة لكنني شبه متأكد من أنه ليس من بينها المهنية و لا الأقدمية و لا المواصفات القيادية التي يفترض أن تكون أهم معايير التقدم الوظيفي في مؤسسة كالتي خدمها صاحبي رحمة الله عليه...

***

نحن في بلد -و هذا مؤسف حقا- لا تقدر فيه المؤسسات الأحياء حق قدرهم بلهَ الأموات... فلم أر طوال فترة خدمتي تقديرا رسميا لأحد من الذين توفوا ممن خدموا مؤسستهم على مدى السنوات ... و أنا هنا أتحدث عن المؤسسة ككيان لا عن أشخاص قد يأتون بشخوصهم يعبرون عن عزائهم و مواساتهم مشكورين....

من العادات التي كنت شاهدا عليها في بداية تسعينيات القرن الماضي -و كنت حينها ما زلت طالبا- أنه كلما توفي أحد من منتسبي تلك الجامعة التي كنت فيها ينصبون له صورة تذكارية عند المدخل الرئيسي مدة أحسبها ثلاثة أيام... و تلك فيما يبدو كانت وسيلتهم للتعبير عن تقديرهم لذلك المُتَوَفَّى و عن حزنهم على رحيله و أيضا كانت و سيلة لإعلام معارف المعني و أصدقائه برحيله لعلهم يحيون ذكراه بخير.

***

أعلم جيدا أن إظهار الحزن بالطريقة التي ذكرت آنفا قد لا تنفع الأموات إلا ما قد يخالطها و يصاحبها من دعاء خالص و عفو و تسامح يصرف للمُتَوَفّى و لكنها تعبير من المؤسسة بإهتمامها بالناس الذين خدموها و ربما ضحى بعضهم في سبيل نهضتها و إزدهارها ... هذا التعبير هو في الواقع نافع للمؤسسة نفسها لأنه يشعر كل فرد فيها من الأحياء بالإنتماء لمؤسسته و ذاك يمنحه شعورا دائما بأنه مهم حيا و ميتا و بالتالي ستكون خدمته لمؤسسته و إخلاصه لها و تفانيه في خدمة أهدافها عقيدة راسخة في قلبه و عقله.

***

أتندون ما هو السر وراء الحالة الكارثية التي تقع فيها أغلب المؤسسات العمومية عندنا؟...

زر أي مرفق عمومي ستجد الأبواب و النوافذ معطوبة و سترى دورات المياه معطلة و رائحتها تملأ المكان و سترى الحديقة الجميلة التي كانت يوما صارت أثرا بعد عين و سوف تصادف مصابيح الإنارة مكسرة و الأسلاك مبعثرة في المكان ... و عندما تتقصى أثر ميزانية التسيير فستجدها قد نهبت بعنف تارة بواسطة  "النفخ" المتتابع للفواتير و تارة من خلال الخالوصات الوهمية ...

و السبب في كل ذلك ببساطة هو أن المنتمين لهذا المرفق المنكوب ليس لديهم ذرة من الشعور بالإنتماء له و ليس لديهم أي إحساس بالمسؤولية تجاهه بل ربما يسيطر عليهم شعور بأنهم أمام غنيمة بفيفاء فما لم ينهبه الواحد منهم فسينهبه الآخر في الحين و لذلك يتسابقون و يتنافسون في جمع ما أمكن من حطامه و الذهاب به لأنفسهم.

***

العدل هو وضع الشيء في محله و نقيضه الظلم، و الظلم أيها السادة ظلمات يوم القيامة و هو أشكال و ألوان... منه أن تمنع حقا ثابتا لأحد أو تثبت عليه عقوبة غير مستحقة و منه أيضا منح أحدهم ما قد يكون غيره أحق به لو كان المنح وفق محددات و معايير محايدة و شفافة و نزيهة وفق النظم و المساطر ... و هذا النوع الأخير هو السائد في أغلب المؤسسات و هو السبب المباشر في خلق نوعين من الموظفين... موظف غير مبال بسبب أنه قد فقد الأمل في التعامل المنصف من طرف مؤسسته ... و موظف غير مبال أيضا  لأن ما بحوزته من إمتيازات لم يكن بسبب جد و لا كد و لا عمل إنما "أوتيه على وساطة عنده" ...تتعدد الأسباب و النتيجة واحدة ... إنها أللاّ مبالاة...

  ***

‏هل تتذكرون أيامكم الأولى في الوظيفة؟... لقد كان النشاط يملأكم ... كان طموحكم عاليا و كانت أحلامكم كبيرة... كنتم تصلون الى مكان عملكم في الصباح الباكر قبل الموعد ربما بساعة ...  تغمركم السعادة و أنتم تباشرون مهامكم في ذلك اليوم و في المساء تغادرون على أمل العودة في اليومي التالي ... و عند ما تذهبون في إجازتكم السنوية كنتم تشعرون بالملل يزداد مع كل يوم  إجازة و كنتم تتمنون العودة في أسرع وقت الى عملكم  و ربما قطع أحدكم إجازته و عاد قبل موعد عودته.

و مع تقدم السنوات صار كل شيء بالقلوب تقريبا...  أصبح الملل يسيطر عليكم شيئا فشيئا و هبط الطموح درجات تحت الصفر و صغرت الأحلام فلم تعد ترى بالعين المجردة و لا بالعين غير المجردة ... و صرتم تتفلتون في نهاية الدوام كما تتفلت الإبل من عقالها و تغادرون مكان عملكم على أمل أن يكون غدا يوم إجازة بل لعل بعضكم صار يتمنى  وعكة صحية غير مميتة ليحصل بسببها على إجازة طبية...  و السؤال هو : كيف كان لمثل  لهذا الانقلاب أن يحدث في حياة أغلب الموظفين إن لم يكن كلهم و ما السبب؟... و الجواب هو: الإدارة السيئة  هي السبب!... كيف ذلك؟.

يحدث الانقلاب عندما  يجد  الموظف زميله الأقل منه شهادة و تجربة و مثابرة و تفانيا يتقدم عليه وظيفيا بل يرأسه في بعض الأحان ... عندما يعلم أن سبب الصعود الصاروخي لزميله  هو كونه ابنا أو صهرا  لمتنفذ ... هكذا يحدث الإنقلاب و ينهار الأمل  و يموت الطموح ... و هنا تكون الخيارت محدودة ... إما أن يستقيل فيغادر المكان  بجسده  و وجدانه  أو  يبقى بجسده و يغادر  بوجدانه... و الغالب أن يكون الخيار الأخير هو الأسهل و بذلك يتحول الموظف  مع الأيام الى عبء ثقيل على نفسه و على  المؤسسة التي لم يعد يدر عليها أية مردودية تذكر زيادة على الشعور بعدم الفائدة الذي سيلاحقه في يقظته و منامه بقية أيام حياته الوظيفية.

***

عندما يتم الإعلان اليوم عن إكتتاب في إحدى المؤسسات الوطنية يكون أول ما يفكر فيه الراغبون في المشاركة هو البحث عن الوساطات بدل مراجعة و تجميع المعلومات و المعارف الضرورية للفوز و النجاح ...  ذلك أنهم يؤمنون إيمانا راسخا بأن أحدا لن يفوز بعمله إلا أن يكون له فضل من تدخل نافذ... أما الشهادات و الخبرات  فهي تطلب فقط ذرا للرماد في عيون الذين لن يحالفهم الحظ ... ربما لا يكون ذلك هو الواقع في كل مرة لكن الغالبية تؤمن به.

 حصل منذ سنوات أن جاءني أحدهم ممتنا لي شاكرا على نجاحه في مسابقة يعتقد جازما أنه لولا مساعدتي و تدخلي  لما كان له أن ينجح... و الواقع أنني لم أتدخل و لم أساعده بشيء... حاولت إقناعه بأنه نجح بفعل عمله و جده و مثابرته لكن بدون جدوى!... إنه لا يصدقني و لا يريد أن يصدقني ...  فلديه إيمان - كإيمان أبي بكر رضي الله عنه-  بأنه في هذا البلد لا ينجح أحد و لا يتقدم إن لم تكن خلفه رافعة اجتماعية أو قبلية أو سياسية.

***

كل تطور أو نمو بشري لا يمر عبر العرق و العمل و المثابرة هو وأد للطموح على الطريقة الجاهلية ... إنه  نمو مشوه غير طبعي مضر بالحياة الخاصة و العامة و ستكون له مضاعفات خطيرة في الحاضر و المستقبل... هذا ما يجب أن تنتبه له الدولة و مؤسساتها من خلال وضع حد لما يشبه "الوجبات السريعة السامة"  المتمثلة في الوساطة التي هي الوسيلة الأولى حتى الآن لمن يريد أن يكون شيئا "مذكورا" في هذا البلد المنكوب.

حفاظا على مستقبل  دولتكم و مؤسساتكم دعوا مواطنيكم ينمون و يتطورون و يترقون عبر السلالم و الطرق الطبيعية... توقفوا فورا عن دفعهم الى النمو عبر "الوجبات السريعة" المخلة و المضرة بهم و بكم و بالوطن... ضعوا لهم محددات علمية للنمو و التطور و الترقي  ثم اتركوهم يمرون عبرها بكل شفافية و عدل و حياد... و من لم يمر فليبقى في مكانه فذلك أفضل له و لكم و للوطن... و خير الكلام ما قلّ و دلّ.

 

 

21. أغسطس 2020 - 21:34

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا