الإسلاميون وتحديات المرحلة! / سيدي محمود ولد الصغير

أن يخرج الإسلاميون عن صمتهم تجاه الذات، وأن ينتقد أداءَهم أو جوانبَ منه كاتب غير مغاضب ولا مغادر، لا يُتلقَّى حديثه قذائفَ انتقام من جموع الصَّحْبِ، أو دلائل انصراف عن مُشتَرَكِ الدرب؛ فذالك شيء يسر؛ إذ هو أدنى لأن يسمع منه المعنيون بدون حواجز نفسية، وأقرب لأن يبتعد هو عن التحامل والتطفيف، وهو ما بدأت بوادره في الفترة الأخيرة تزداد بحمد الله..

ويبدو مؤتمر حزب تواصل الذي هو مناسبة لتقويم سابق الأداء، والتخطيط لإكمال البناء فرصة مواتية لمن يريد مشاركة من هذا القبيل حتى كأنه الظرف الذي لا ينبغي أن يتأخر عنه ذلك الحديث. وسيكون من مقتضيات التوازن أن أتحدث عن بعض الجوانب المشرقة في تجربة الإسلاميين السياسية – وقد تتجاوزها الملاحظات إلى جوانب أخرى من مشروعهم الأشمل – وعن بعض الملاحظات السلبية في التجربة ذاتها..

 

جوانب التميز المهتم بتجارب الحركات الإسلامية المعاصرة يدرك بشيء من المقارنة أن في التجربة الموريتانية بعض الخصائص الإيجابية الجديرة بالتسجيل، من بينها:

 

1- الأخوة لا المُريديَّة: والمقصود بهذه الملاحظة أنه في كثير من الحركات الإسلامية تنشأ الحركة حول قائد كبير ذي صفات خاصة تكون له سلطة فكرية – أو روحية – على "الأتباع" الذين قد يختلفون في كثير من التفاصيل إلا على الولاء له والاستئسارلقيادته، وهذا النوع من الحركات ما يلبث أن يواجه مشاكل حادة في غياب القائد الرمز، ولذلك أمثلة كثيرة. ولم تتأسس الحركة الإسلامية في موريتانيا تأسيسا على هذا المنوال – وإن لم تخلُ من مشاكل أخرى - فأجيالها الأولى كان بينها تقارب كبير في الأعمار والمستويات، ولم يبرز فيها تاريخيا ذلك القائد الرمز المطلق النفوذ، بل إن أكبر شخصياتها العلمية والفكرية تأثيرا – خاصة في العشرين سنة الأخيرة – كانت تزْوَرُّ عن المناصب القيادية الكبيرة في أغلب الأحيان، في انسجام كامل مع الركب بكل أريحية وتفان؛ تنظِّـِر، وتخطط، وتوجه، وترشد، وتراقب الأداء، وترفد العمل بالإنجازات الكبرى. وهذه السِّمة ساعدت الإسلاميين في موريتانيا كثيرا على أن يبنوا – بعد تجاوز أزمات التأسيس وإعادة التأسيس – عملا مؤسسيا مميزا، لهم فيه الكثير من الإنجازات والجوانب المشرقة، وأهم ما فيه – ضمن هذه النقطة – هو المؤسسية ذاتها التي جعلته قائما بذاته مستقلا في أذهان المنتمين إليه عن أشخاص القادة وأسماء الرموز؛ بحيث لا يشكل غيابهم بأي سبب – حفظهم الله – خطرا حقيقيا على العمل.

 

2- الوضوح المنهجي من النجاحات المهمة التي حققها الإسلاميون في موريتانيا بشيء من التراكم المحمود  حسمهم لأهم الإشكالات الفكرية المطروحة على الساحة الإسلامية محليا ودوليا؛ فلم يعد في منهج الإسلاميين بموريتانيا لبس في الموقف من قضايا مثل: الطبقية، والرق، ومشاركة المرأة، والديمقراطية، والعلاقة بالآخر غير المسلم، وتعدد الجماعات الإسلامية، وإلزامية الشورى (الصادرة عن الهيئات). كما لا يوجد لديهم لبس في مرجعية الاستدلال، والموقف من الاجتهاد والتقليد، والنظرة إلى تراث الأمة الفقهي، والموقف من التصوف...إلخ وقد ساعد على المنجز في هذه النقطة توفر الإسلاميين في موريتانيا على مرجعيات فكرية كبيرة لها اطلاعها العميق على معارف الشرع، وإدراكها الجيد لمستجدات العصر؛ وهو ما لا يتوفر بنفس المستوى في كثير من الحركات الإسلامية الأخرى مع الأسف الشديد.

 

3- الحرية والشرعية: أ‌- ومن الجوانب المشرقة في تجربة الإسلاميين بموريتانيا اهتمامهم بحرية الرأي واستقلال الفكر، وهو ما كرسوه مؤسسيا من خلال التعايش الفعال مع الاختلاف في تفاصيل المواقف والرؤى أحيانا – بعد الاتفاق على الكليات- مع إتاحة الفرصة للتقويم المستمر، وانتهاج اللامركزية الإدارية؛ مما أثرى عملهم وفتح له مسارب التطوير، ورفده بتجارب مهمة أضافت إليه الكثير. ب‌- أما الشرعية فهي عنوان مشرف في تجربتهم، ويمكن القول من موقع الاطلاع أحيانا، والمتابعة أحيانا: إن الإسلاميين في موريتانيا من أكثر الجهات إيمانا بالديمقراطية وممارسة لها في كل مستويات عملهم؛ بدءا بالمحافظة على شرعية الهيئات، والشفافية في انتخاب القيادات، وانتهاء باحترام النظم في اتخاذ القرارات. وليس المقصود هنا تعداد كل جوانب التميز والنجاح لدى الإسلاميين في موريتانيا، ولذلك فسأقتصر على الأمثلة السابقة لأتجاوز إلى بعض الجوانب التي أراها جوانب قصور يجب استدراكها في قادم الأيام. 

 

مظاهر القصور رغم وجود الجوانب المشرقة السابقة في تجربة الإسلاميين في موريتانيا فإنها لم تخل من بعض النقص وجوانب القصور، يمكننا إعطاء أمثلة عليها من خلال الملاحظات التالية:

 

1- ضعف الإنتاج الفكري: رغم وجود قامات فكرية فارعة لدى الإسلاميين بموريتانيا إلا أنهم – للأسف – لم يقدموا للفكر الإسلامي المعاصر الكثير، بل- حتى - لم يعرِّفوا الناس بتجربتهم هم، لا الفكرية ولا التنظيمية، و ما يزال أغلب ما يكتب عنهم – إلى اليوم - هو ما يكتبه المغرضون والمغاضبون، ما عدا نتفا قليلة خرجت للعلن من خلال بعض المقالات أو المقابلات لم تجد ما يكفي من الصدى والانتشار. وينبغي هنا استثناء التأثير الواسع للشيخ محمد الحسن ولد الددو في تأصيله لمفاهيم العمل الإسلامي المعاصر التي استفاد منها أبناء الحركة الإسلامية في العالم، وإن لم يتحول أكثرها إلى كتب أو رسائل. كما يلزم استثناء ما يقدمه الدكتور محمد بن المختار الشنقيطي في هذا الصدد؛ فقد كتب الرجل كتبا مهمة ذائعة الصيت قرئت في كل مكان، لكنها في الحقيقة تعكس فكر الرجل الموسوعي الثقافة والاطلاع أكثر مما تعكس فكر الحركة الإسلامية في موريتانيا ومقاربتها للقضايا المطروحة للنقاش. ولا مانع من وجود بعض الاستثناءات ولكن هذه هي الصورة الغالبة.

 

2- محدودية الاستيعاب: أ- هناك ضعف ظاهر لدى الإسلاميين في موريتانيا في ما يسمى "الاستيعاب الخارجي" ؛ فقد شهدت السنوات الأخيرة سقوطا مدويا لأغلب الأطروحات الفكرية البديلة عن الإسلام ولم يعد بيد أصحابها ما يقنعون به أنفسهم فضلا عن الآخرين وأقبلت الجماهير في موريتانيا- وخارج موريتانيا على المساجد ومواطن الخطاب الإسلامي - لكن أصحابنا لما يستطيعوا استيعاب هذه الأفواج المتدفقة الاستيعاب اللازم، حتى تكون رصيدا مؤثرا لصالح مشروعهم الإسلامي الإصلاحي الكبير، وهذا تحد عليهم رفعه في قادم الأيام. ب - ولديهم عجز في "الاستيعاب الداخلي"– وهذه سمة لا تقف عند حدود حزب تواصل – حيث إن فئاما من الناس ممن وافقوا على الانضمام للحزب مختارين وللحركة الإسلامية راغبين يعيشون فراغا حقيقيا، وكثير منهم أهل كفاءات وكفايات وطاقات مميزة، في حين أن عددا محدودا من الناس يئن تحت وطأة كثرة المشاغل والتكاليف التي يقف في النهاية عاجزا عن أدائها بالطريقة الملائمة فيكثر تأخره عن المواعيد، وانشغاله عن أداء بعض التكاليف، وغيابه عن الأدوار الاجتماعية الضرورية، وهذا – في تقديري – فشل إداري عظيم من جهة، وتفريط – إن لم يكن ظلما – لهذه الطاقات المعطلة من أبناء العمل الإسلامي التي تنتظر التكليف بأي عمل تخدم من خلاله قناعاتها التي ساقتها إلى العمل الإسلامي. وفي وضعٍ كهذا لا نتوقع كثيرا من الإبداع، ونتوقع ضياع كثير من التكاليف أو إنجازها على نحو لا يَسُر! وهذه مشكلة حقيقية أراها من بقايا تأثير سني العمل السري الذي يقدس الثقة على حساب الكفاءة، وقد آن للقوم أن يعالجوا هذا الأمر.

 

3- انفعاليَّة الخطاب: من الانتقادات التي توجه للإسلاميين وحزب تواصل خصوصا: ما يتعلق بالنتوءات الخطابية المتمثلة في الحدة الجارحة، والخطاب الانفعالي لدى العديد ممن يحسبون على الحزب؛ متحدثين، وكتابا، من القيادات حينا!، ومن الشباب أحيانا كثيرة، وهذا خلل تنبغي معالجته ببلورة معالم خطاب رصين رزين، وتدريب كوادر الحزب– فضلا عن قياداته – عليه، لأن خطاب الحزب هو الذي يشكل صورته لدى الناس، ولا ينبغي ترك الأمر لأمزجة الأفراد.

 

4- التسرع في بعض القرارات الكبرى: من الانتقادات التي يمكن تسجيلها على حزب تواصل أنه يتخذ أحيانا قرارات سياسة خطيرة بدون إعطاء الوقت الكافي لدراسة مبرراتها، وما تزال تلك المبررات يدخلها قدر من الانطباع والتقدير الذي يفتقر في بعض الأحيان إلى معطيات علمية مؤكدة، ويغيب في بعض الأحيان التدرج المنطقي في تنزيل تلك القرارات إلى الناس فتأتي صادمة وغير مستساغة، ثم يهون التنصل من هذه الأخطاء بتحميلها لزيد أو عمرو، والأمر ليس بتلك البساطة، فأخطاء السياسة قاتلة، وبعض المسوغات لا ينهض. وأكتفي بهذا من الملاحظات النقدية الآن لأختم بالحديث عن بعض التحديات التي تواجه الحزب في المرحلة القادمة.

 

تحديات المرحلة إن على حزب تواصل وهو يعقد مؤتمره الثاني في هذه المرحلة الخاصة من تاريخ البلد، والإقليم، والأمة... أن ينتبه إلى أن جملة من التحديات تنتظره في الفترة القادمة بحكم التحولات التي يشهدها العالم وتشهدها التجارب الإسلامية الماضية قُدُما باتجاه حكم شعوب المنطقة، وأهم هذه التحديات في نظري: 1- تحدي استيعاب الجماهير؛ فكريا وسياسيا، واستيعاب عضوية الحزب - المتسعة بشكل دائم - تنظيميا أيضا.  2- تحدِّي النفوذ إلى الدولة لأخذ الخبرة وكسب التجربة.  3- تحدي الإجابات الفكرية على أسئلة الحداثة (تطبيق الشريعة في ظل دولة مدنية ديمقراطية).  4- تحدي العلاقة بالآخر، وبناء الصورة لديه، وإدارة المصالح معه دون ارتهان ولا استعداء.  5- تحدي التخلص من حكم الفرد، وإزاحة الحكم العسكري المتزيي بالزي المدني.  وأخيرا فإن هذه التحديات مجتمعة – وغيرها- تحتاج أن تؤخذ في الحسبان عند اختيار قيادة المرحلة القادمة دون استئسار لأي اعتبار يأتي من خارج قناعات المؤتمرين، الذين هم مسؤولون أمام الله وأمام التاريخ عن قرار قد يكون له كبير الأثر في مسيرة العمل الإسلامي والبلد.  والله من وراء القصد، ولله الأمر من قبل ومن بعد

22. ديسمبر 2012 - 23:41

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا