تجبي شركة الكهرباء "الوطنية" رسوما مئوية على جميع مستهلكي الكهرباء، مذكورة في فواتيرهم، تحت بند "الإنارة العمومية"؛ أي المصابيح الموضوعة على الأعمدة في الشوارع والساحات العمومية.
وكانت هذه الإضاءة في الأصل متوفرة في معظم شوارع انواكشوط، مرتبطة بشبكة أسلاك خاصة منفصلة ومرافقة لكابلات الشبكة الرئيسية؛ ليتم التحكم في إنارتها ليلا فقط، إما بآلية توقيت تلقائية أو يدويا في محطات التحكم.
ومنذ منتصف الثمانينيات توقفت شركة الكهرباء عن مد "شبكة الإنارة العمومية" مع تمديداتها الجديدة، كما أهملت الشبكة القديمة المحدودة النطاق، حتى تآكلت وتهاوت مصابيحها وخربت محطاتها...
وما يوجد اليوم من الإنارة العمومية للشوارع والأحياء في بعض المناطق القليلة، وخاصة "تفرغ زينة" يتم بطلبات نافذين، ولا يرتبط بشبكة وإنما هو إنارة مستقلة لكل عمود توقد وتطفأ بزر تقليدي معلق بالعمود، أو تركب ولا تطفأ مطلقا!
وهكذا فقد اختفت الإنارة العمومية كلية وعم الظلام مدينة انواكشوط، حتى لا تكاد تميز بينها وبين عرض المحيط الأطلسي وأنت تحلق فوقها ليلا... فالظلام دامس والأضواء القليلة المتناثرة في المدينة قد تكون سفنا أو زوارق في لجة البحر!
لكن هذه الملاحظة تبدو موغلة في الرفاهية، فالظلام الذي يلف المدينة شكل بيئة ملائمة للجرائم المختلفة، ومصدر رعب وقلق دائمين للساكنة.
وحتى أكبر الشوارع والطرق المعبدة؛ بما فيها طريقا الأمل ولـﮔـوارب، الرابطين بين مركز العاصمة والمقاطعات الأكثر سكانا... نُزع ما كان عليهما من الإنارة وأصبح الظلام سببا عليهما لكثير من حوادث الدهس والاصطدام بالحواجز؛ مما أزهق أرواحا غالية وسبب جروحا وخسائر مادية كبيرة في السيارات...
لا، بل إن السلطات المعنية التي تُسفلت بعض الطرق بمبالغ وجهود كبيرة، تعجز، بل تهمل وضع خطوط الصباغة المعروفة على هذه الطرق، لتحديد مساراتها وحدودها للسائقين، وخاصة في الظلام!
وهذا من الأمور المحيرة حقا، والتي تؤكد تفشي الإهمال والاستهتار وانعدام المسؤولية، وغياب المهنية والرقابة على أعمال هذه الطرق... رغم تعدد وقرب السلطات المعنية (قطاعات النقل والتجهيز والعمران والداخلية، والبلديات والمجلس الجهوي... "بالبركة"!!
تسعرة تعلو ولا تنزل!
كذلك تحدد شركة الكهرباء للمستهلكين سعرا لوحدات الكيلووات على أساس نوعين من الاستهلاك، هما: "الاستهلاك الاجتماعي"، وسعره حوالي 35 أ/ق، و"الاستهلاك التجاري"، وسعره حوالي 60 أ/ق.
وقد حددت الصنف الأول ب1200 ك/و للسنة، إذا تجاوزها تصنفه الشركة مباشرة، بدون تحذير ولا إشعار! استهلاكا تجاريا!!
وهذا ما يسبب صدمات لكثير من المستهلكين الذين تتضاعف عليهم مبالغ الفوترة، المدونة بلغة أجنبية، فجأة دون أن يعرفوا السبب؛ فتكثر الشكاوى واللغط!
لكن الغريب أن هذه الزيادة المضاعفة "ضربة لازب" لا تخضع لأصل التعديل!
فعندما يقوم المشترك، بعد فهم التغيير واستيعاب الأسباب، بتخفيض استهلاكه إلى أقل من 1200 ك/و للسنة، فلن ينفعه ذلك ولن يرجع إلى "التسعرة الاجتماعية"، وإنما سيبقى خاضعا للتسعرة التجارية، مهما كان استهلاكه أقل من المعدل الأدنى!
ومن الواضح أن حجم الاستهلاك "الاجتماعي" قد وضع أصلا على أساس الاستهلاك المحدود للمناطق الشعبية؛ حينما لم تكن أغلبية الأسر تستخدم الثلاجات والمكيفات والأجهزة الكهربائية التي أضحت من الضروريات الأساسية للفقراء وغيرهم (كالتلفزيون والهواتف والمراوح... الخ).
والحاصل أنه رغم زيادة إنتاج الطاقة الكهربائية وتنوع مصادرها، وانخفاض تكاليفها، ما تزال كما كانت في الانقطاع المزمن وغلاء الثمن ورداءة الشبكة وسوء معاملة المستهلكين...
فمعظم المستهلكين اليوم يخضعون لتقديرات عشوائية لاستهلاكهم، رغم وجود العدادات، والأدهى من ذلك أن فواتيرهم، التي تنفق الشركة أموالا طائلة على إعدادها وطباعتها، وتكتتب عشرات العمال لتوزيعها، لا تصل أكثرهم، ولا يشعرون بشيء حتى تأخذهم "قطاعة" الكهرباء على حين غرة، ليكتشفوا أن السبب عدم تسديد الفاتورة، التي لم تصل ولن تصل!
ورغم تطور وسائل التواصل التقنية وتوفر جميع المستهلكين عليها، لا تكلف الشركة نفسها إشعارهم بواسطة هذه الوسائل السريعة شبه المجانية، بضرورة دفع مستحقاتها في الوقت المناسب، بدل التنبيه بالقطع المادي الذي يكون سببا لدفع غرامة الـ1200 أ/ق المشهورة، وأحيانا مصادرة العداد وتخريب التوصيلات... الخ
إن الشركة تعامل معظم زبنائها على أساس ماتعرف في نفسها من فساد وتجبر وظلم و"ظلام"، وهو ما يدعو كثيرا من الناس إلى استباحة الكهرباء وعمليات التحايل والسرقة، بمساعدة "متخصصين" في ذلك من داخل و"أطراف" الشركة نفسها!
ويمثل الفشل في تغيير هذا الوضع أحد أبرز وأخطر الإخفاق والتقصير والإهمال في سياسات الحكومات المتعاقبة في البلاد.
وللكهرباء خارج انواكشوط، قصص أخرى أكثر ألمًا، رغم الانتشار الأفقي الخداع لهذا المرفق الضروري.