لقد استمرت العلاقات عندنا بين الفئات المتعلمة وشبه المتعلمة وبين السلطة الوطنية على نسق العلاقات التي كانت تربط المترجمين في العهد الاستعماري والمسؤولين آن ذاك الذين كانوا أجانب يعتمدون على المترجمين في علاقاتهم وتواصلهم مع السكان.! فكان المترجمون يستمدون كل قوتهم ومكانتهم من موقعهم وحظوتهم لدى المسؤولين الاستعمارين ربما بسبب اعتماد الإدارة في بداية عهدها في مرحلة الأستقلال على الأطر الذين كانوا مترجمين وموظفين لدى المستعمر استمرت ونمت تلك العقلية التي تعتبر القوة والحظوة لا تنال إلا عبر العلاقة بالمسؤولين وتقديم أنواع التزلف وصنوف المبالغة في إظهار الولاء أما الجدية في العمل وتأكيد الجدارة والكفاءة وتقديم حصيلة المنجز الفعلي فليست مما يبحث عنه ..!
ولنفس السبب استمر هذا التملق الذي يشكل ثابتة في السلوك والنهج المتبع فكل موظف يبالغ في مدح وتنميق المسؤولين من أصغرهم إلى أكبرهم لقد بالغوا في مدح الرؤساء و بلغوا في مدحهم مستويات غريبة وتفننوا في أوصافهم والإشادة بأدوارهم ومنجزاتهم والإتيان في ذلك بالكذب الكثير لوصف الأمور القليلة التي تحققت في عهودهم ويظل موظفنا البائس ينفخ في مزماره ويتغنى بمحامد رؤسائه مستغنيا بذلك عن الجهد الفعال والإنجاز المثمر في مجال اختصاصه ومهامه.، مفضلا الإشادة بالمسؤولين ومنجزاتهم وعند تغير مسؤول يحل خَلَفُهُ في مكانه و مكانته ويتم تقديم نفس الطقوس للوافد الجديد وكأن الإثنين شخصا واحدا.
يستوي المثقفون وغيرهم
هذا الأسلوب من النفاق و أنواع التملق يستوي فيه المثقفون أصحاب الشهادات العليا والسياسيون الذين يدعون أنهم مؤمنون برؤية للحياة على شكل إيديولوجيا ومبادئ ....
ترى الإثنان يتنافسان أصحاب الشهادات وأصحاب الرؤى في مدح المسؤولين و تمجيدهم والتفنن في التملق لهم فلا يكفيهم أنهم غير معارضين أو أنهم في الحزب الذي يتبع للدولة وأنشئ - فقط- لتأييدها أو أنهم في الانتخابات التي هي مجال التعبير عن التأييد أظهروا موقفهم وتوجههم كل ذلك لم يغنيهم عن التزمير والتطبيل الذي لا يتوقف.
رأيت يوما أحد أهل الرأي المدعين تبني مبادئ وكنا في استقبال لمعاوية في مقاطعة جكني وهو صحافي يقوم بالربط بين فقرات برنامج السهرة وبدأ في موجة تطبيل جعلت الرئيس معاوية يضحك وكان قليل الضحك.. من مبالغاته ورأيت الشخص نفسه بعد ذلك يمجد الرئيس الذي أطاح بمعاوية حتى اعتبره من الخالدين و رأيته تحول إلى الذي أعقب الأخير كل هذا وهو يرى أنه يمارس عملا نبيلا وجهدا مطلوبا والأمثلة كثيرة جدا.
قلت مرة لحامل دكتوراه في الآداب ويتقلد منصبا ساميا في الإدارة، موظف كبير : لماذا لا تقول كذا في مسألة كنا نبحثها فقال لي لانستطيع إنهم لا يريدون الكلام في ذلك الموضوع قلت له وكيف يستفيدون من خبرتكم ؟ وكيف تستطيعون تأدية مهامكم إذا كانت آرائكم و معارفكم لامجال لها؟ فقال هكذا الأمر عندنا فمن شاء الحفاظ على مكانته فليتحفظ ولا يتشوف لما ليس لمثله !!! .
ويغلب على المداحين عدم الإخلاص
الميزة الغالبة في المداحين المتملقين عدم الإخلاص فقد رأيت من ذلك العجب العجاب أورد مثالا واحدا منه لقد كنت سنة ٢٠٠٠ - ٢٠٠١ على علاقات بتكتل القوة الديمقراطية فبعث إلي معاوية من يسألني عن ظروفي ويخبرني أنه مهتم لأمري ولم أطلب منه شيئا وإنما قلت له أنني بخير وأمارس حريتي - هذا الذي أرسل لي قد يقرأ هذا المكتوب- وبعد أيام أخبروني أنني سأتلقى راتبا من جهة معينة فوقعت في حيرة لأني لم أتفق معه على شيء ولم أطلب منه شيئا ولم يكن هو قد عرض علي شيئا وكنت في أمس الحاجة لبعض المال فقبلت العرض وتوقفت عن الجماعة لأنهم حسب ظني لن يفهموا أن يعطيني معاوية وظيفة ولا يطلب مني خدمة والحقيقة أن هذا هو الذي وقع.!!
فتوقفت عن جماعة التكتل وقلت لماذا لا أقدم لمعاوية خدمة كبيرة تفيده ويكون ذلك بداية علاقات وتعاون ...
فقمت بالتفكير في خلق علاقات بينه وبين رفاق كنت أعلم أنهم يريدون ترشيح ولد هيدالة ضده وأعلم أن أحدهم وهو نائب في البرلمان قد حاول الاتصال بمعاوية عن طريق رئيس البرلمان ذاك الحين المغفور له الرشيد بن صالح فلم يقدر على ترتيب هذا اللقاء لسبب لا أعرفه فقمت بالاتصال بَمسْؤُولَيْنْ مهمين جدا جدا في نظام معاوية فقلت للذي اتصلت به أولا إن هناك مسألة هامة للنظام وأريده أن يساعدني في لقاء الرئيس حتى أوضحها له فقال لي ليس عندهم شيء مهم لا تتعب نفسك !!! فقمت بالإتصال بالآخر وكان أكبر مكانة ، وأوضحت له ما أفكر فيه لصالح التقاء الرئيس بالجماعة آنفة الذكر وإمكانية إنهاء تأييدها لترشيح ولد هيدالة.!! فقال لي بعد أن استمع بتمعن أنصحك ببقاء هذه المسألة في السر عندك ولتترك النظام ينجح أو يفشل كل ذلك سيان عندنا فعلمت علم اليقين أن هذا القرب من النظام وإظهار التأييد المبالغ فيه أحيانا لا يتضمن إخلاصا ومودة حقيقيتان إنما أكثره نفاقا وتمظهرا لا غير...إن أكثر أهل النظام الذين يظهرون الإحاطة به إحاطة السوار بالمعصم هم في الحقيقة بعيدون كل البعد من الإخلاص له والبحث عما يفيده...
إن مواطنينا لايحسبون أنفسهم في وطنهم!!
إن تصرف مواطنينا يشبه تصرف الأجانب يريدون تحقيق السلامة وتحقيق شأنهم الخاص ولا يهمهم بعد ذلك شيء...لا يعنيهم من يحكم وماذا يفعل وكيف تجري الأمور فهم مع الحاكم الموجود يطيعونه ظاهريا ويبالغون في صنوف التبعية له إذا اتبعوه ويبالغون في التطرف و التنديد به إذا عارضوه .!! لا وسط بين الإثنين إما مذلة وخضوعا أو نفورا و جحودا لا مجال للمسؤولية والاقتصاد عند الأتباع والتوسط والاعتدال عند المعارضة و الاختلاف .!!