عـندما قـرر السياسى البارز أحمد ولد داداه العـودة إلى موريتـانيا فى أواخر سـنة 1991 للمشاركة فى الإنتخابات الرئاسية بعـد غـياب عـن الوطن طال أكثر من 13 سنة، تساءلت حينها عن كفائة الرجل فى قيادة البلاد، لا لأننى كنت أشك فى مستواه الفكرى، أو قدراته المعرفية، ولا حتى حجم تجربته السياسية، ولكن لإعـتقادى أن الفترة التى قضاها خارج موريتانيا كانت كفـيلة لـتـنسيه ظروف المواطن الموريتانى وتطلعاته، وكذا مجمل المشاكل التى يعانى منها الشعب بصورة عامة. وهـا هو الزمن يرد على تساؤلاتى: فقد قضيت أكثر من 22 سنة فى الولايات المتحدة الأمريكية ولم تتح لى الفرصة، خلالها، لزيارة وطنى - موريتانيا- إلا خمس مرات ، ولفترات لا تتجاوز أشهر معدودة. لقد عرفت الآن أن الغياب عن الوطن ولو لفترات طويلة ليس من شأنه، بالضرورة، أن ينسى المواطن، مشاكل وطنه ولا تطلعات شعبه. فبالعكس، إن البعد عن الوطن يجعل المواطن الغيور على وطنه لا يكاد يرى مظهرا من مظاهر التطور والإزدهار خلال رحلته إلا وتمنى أن يراها تتحقق فى بلاده. ولقد لاحظت من خلال تجربتى الشخصية وما إستقرَأته من نقاشى مع المغتربين، الذين كان لى الشرف فى معاشرتهم هنا فى أمريكا، أن البعـد عـن الوطن إنما يزيد الفرد حبا فيه وتعـلقا به. وبما أن المغترب يتأثر عادة بالنهج السياسى والإقتصادى للدولة المضيفة وكذا أسلوب الحكم المتبع فـيها ، فإننا فى الولايات المتحدة الأمريكية نتطلع، ربما متأثرين بمقولة المناضل الأمريكى الأسود "مارتين لوثر كينك –جينيور" (لدي حلم)، إلى أن نرى موريتانيا دولة ديموقراطية، يتم تقسيم ثرواتها على شعبها بصورة عادلة، و يمارس فيها المواطن ، حسب توجهه، النشاط الذى يرغب فيه بكل حرية و بدون قيد أو معوقات، سوى الشروط التى توضح عادة من أجل تنظيم هـذا القطاع أو ذاك. كما أننا نحلم بإقامة بنية تحتية تتماشى مع متطلبات العصر مثل نظام الصرف الصحى، وبناء شوارع واسعة، وجسورفى أماكن الإزدحام . بالإضافة إلى أننا نحلم أن تتبنى الدولة ، حسب رأي المفكر الإنجليزى "جون منيار- كينز"، رؤية واضحة لتطوير القطاع الصناعى فى موريتانيا، والإشراف عليه حتى تستقيم أموره. وإذ نعتبر أن جل المشاكل السياسية التى تعانى منها بلادنا فى الوقت الراهن تكمن جذورها فى الظروف الإقتصادية للمواطنين، فإننا نرى أن محاربة الفساد بكل أشكاله كفيلة بالنهوض بأمتنا من كل ما تعانى منه، لتتحول إلى دولة مؤسسات يُـعطى فيها لكل ذى حق حقه ويغلب فيها الحس الوطنى على كل المعايير الأخرى . وبما أننى على يقـين من أن النقـد وحده لا يكفى فإننى كأغلب المغتربين فى أمريكا الآن، لا أرضى أن أضيع وقتى فى النقـد اليتيم أي ذلك النقـد الذى لا تصاحبه إقتراحات موضوعية تأخذ فى الإعتبار المصلحة العامة فقط . فالأنظمة الموريتانية سمعوا من النقـد ما يكفى لأن يأخذو مواقفهم من كل الأمور المستعصية وأولها الإستقرار السياسى والتطور الإقتصادى فى البلاد. ولأن إيجاد حل واحد لمشكلة مصتعصية أصعب بكثير من إرتجال حزمة من النقـد، لهذه الظاهرة أوتلك، يفوق نقد المفكر الألمانى "إيمانويل كانت" ( للعقل المحض)، فإننى أرى أنه من الأجدر بكل مواطن مخلص ،مغترب كان، أو كان داخل الوطن، أن يبذل جهدا لإيجاد حلولٍ للمشاكل التى يعانى منها مجتمعنا بدلا من الإسهاب فى النقد، وهـذا لا يعنى أن النقد سلبي فى حد ذاته، فبالعكس فهو إيجابي و ضرورى ولابد لكل حكومة ديموقراطية أن تكون لها معارضة من أجل نقدها، نقدا موضوعيا أي نقدا يظهر النواقص ويقترح حلولا من أجل النفع العام . ولا يجوز أن يبلغ العداء بين المعارضة والأغلبية الحاكمة فى دولة ديموقراطية حد المساس بالامن العام ، أوبالمقدسات الدينية أوالوطنية أبدا. ألم يقل المفكر الهولندى "أسبينوزا" (أن تطبيق الديموقراطية يتطلب مستوى من الوعي والثقافة ، وإلا فسوف تكون للديموقراطية مضاعفات سلبية" . ورجائى أن لا يعـتقـد القارء لهذا المقال أننى ساذج بتقديمنى لهذه المقترحات التى تـهـدف أساسا إلى حل المشاكل التى يواجهها شعبنا من كل الطبقات و من كل المستويات ، فربما أكون أقدم هـذه الحلول قبل وقتها، كما حصل للفيلسوف الألمانى "آرثور شبنهاور" والمفكر الهولندى "باروش أسبينوزا" إذ أن أي من هما لم يحظى بالإهتمام اللئق به إلا بعد مئات السنين من وفاته، لذا قيل أن كلاهما كان قد ولد قبل عصره. وأخيرا إليكم هــذه المجموعة من الإقتراحات التى يكمل بعضها البعض.
1 - إقتراح لمكافحة الفساد:
لا بد أن نعترف أن الفساد أصبح متجذرا فى مجتمعنا للأسف، وللقضاء عليه لا بد من تضحية كبيرة الحجم ،لإن القضاء عليه أصبح مسألة صعبة . ولا أرى أنه يمكن القضاء عليه بدون وجود قائد قوي، أمين، لا يهتم بجمع المال ولا يعمل من أجل إعلاء قبيلة ولا حتى إديولوجية معينة. فإ ذا وجد هـذا القائد وقرر مكافحة الفساد فإن عليه أن يأخذ القرارات التالية: ا) - فتح فروع لمكتب مكافحة الجرائم الإقتصادية فى كل ولاية وفى كل مقاطعة ، و إعطاء إذن قانونى لهـذه المكاتب بإجراء تحقيق شهرى مع كل إدارة مهما كان حجم نشاطها المالى. ويكون لزاما على القائمين على العمل أن يقدموا تقريرا شهريا للإدارة العامة التى يجب أن تكون على إتصال مباشر مع الرجل الفولاذى الذى يحكم البلاد. ب) - إستبدال كل من ثبت عليه إختلاس مهما كان حجمه بمسير آخر ، ولو تطلب ذلك إستبدال كل المسيرين فى وقت وجيز. ج) - تطبيق قاعدة الرجل (المرأة) المناسب فى المكان المناسب، مثلا : فمدير لمؤسسة صحية (مستشفى) يجب أن يكون مسيرا ، لأنه إن كان " طبيبا" (وهو الحال الآن مع الأسف) فإن ذلك يشكل خللا فى توازن الوظائف فى البلاد، فمن جهة سيتسبب هـذا التوجه فى أن يفـقد قطاع الصحة "طبيبا" (لأنه أصبح مسيرا) ومن جهة أخرى سيفقد المسيرون "وظيفة". وعلى كل حال فإن مسير هـذه المؤسسة الصحية الذى أفنى عمره فى دراسة الطب سيجد نفسه أمام مواقف صعبة لن يكون بوسعه حلها إلا عن طريق الإعتماد على أحد الموظفين من تلك المؤسسة (بتقريبه منه مثلا) ويكون ذلك على حساب ميزانية المؤسسة. ح) - العمل على إستقلال القضاء بصورة جدية حتى تكون للقوانين الرادعة تأثيرا على تصرفات الأفراد ومسؤولى الدولة خاصة.
2- خطة لتطوير الإنتاج الصناعى فى البلاد: يعارض المفكر والإقتصادى "جون – منيار – كينز" فكرة (دعه يعمل ، دعه يمر) والتى تبنتاها المدرسة "الليبيرالية" منذو "الفيزيوقراطيون"، ورأى "كينز" ان للدولة دور فعال فى إنعاش الإقتصاد عن طريق إنشاء المشاريع وخلق الإستثمارات ولو تطلب ذلك إقتراض الأموال من أجل ضخها فى الأسواق، فالمهم حسب رأيه هو أن تخلق الدولة فرص للعمل ، لأن ذلك سيساهم فى خلق الثروة وتقسيمها على أكثر عدد ممكن من المواطنين ، لأن هــذه الأموال ستصرف، لاحقا فى شراء أغراض ومستلزمات منزلية ومعدات إنتاجية ، الشيئ الذى من شأنه أن يحيى الأسواق وينشط الدورة الإقتصادية. وهـكم الخطة فى خلق تلك المشاريع: فى البداية لابد أن تقوم الدولة بدراسة ميدانية لما تحتاج له الأسواق من مواد إستهلاكية وغيرها وترتيبها حسب الأهمية ثم الإستثمار على ضوء ذلك وتشجيع المستثمرين للدخول مع الدولة فى تلك المشاريع. فمثلا: إذا لوحظ إرتفاح الطلب على مادة ما فى الأسواق الوطنية فمن المهم العمل على محاولة إنتاج تلك المادة أو مادة بديلة عنها. وإن تعذر ذلك فى الوقت الراهن نقوم بتأجيل الموضوع إلى تكون الظروف مواتية. أما إذا أمكن تحقيق المشروع فمن المهم أن تستثمر الدولة فيه وتفتح باب المشاركة للقطاع الخاص ثم تقوم بالإنسحاب منه تدريجيا لكي تستثمر فى مشروع آخر، وهلم جرا. وبهـذه الطريقة توجه الدولة ، وتساعد القطاع الخاص على الآستثمار دون أن تكون ملزمة بالبقاء فى مشروع بذاته. وعندها ستتوفر فرص العمل، ويزداد الطلب على المواد الأولية المحلية، وفى نفس الوقت تستمر مداخيل الدولة فى الإزدياد مما يزيد قدرتها على توفير الدعم المناسب للطبقة المتوسطة .
3- خطة لتقسيم الثروة بصورة عادلة: ليس من الضرورى شرح أهمية تقسيم الثروة بين المواطنين ، لأنه أمر بديهى ، وهو محور كثير من الدراسات الإقتصادية القديمة والمعاصرة. والخلاف بين الباحثين يكمن فى خطة التقسيم لا ضرورة التقسيم العادل. وإذ أن موريتانيا تتبع النهج الرأسمالى ،مع كثير من الميوعة فى إتباع هـذا النهج، فمن المهم وضع خطة تتماشى مع النطام الإقتصادى المتبع عندنا. ولكي أضع خطتى فسوف أنطلق من مسلمتين: إحداها هي أن لكل موريتانى الحق فى كل أوقية دخلت خزينة الدولة سواء كان مصدرها خارجيا أم داخليا. والثانية هي أن وجود فائض فى خزائن الدولة دليل على سوء التسيير، ولن يكون بوسعى توضيح ذلك، لأن المقام يضيق عن الخوض فى تلك الأمور. ولكن المهم هنا هو أن لا يكون هنالك خوف من عجز فى ميزانية الدولة مادام هنالك مجهودا لتقسيم ثروة البلاد، لأن النقود حيث حلت ، مآلها إلى خزينة الدولة لا محالة. أما خطة تقسيم الثروة فستقوم على المحاور التالية:
ا) توظيف أكثر عدد ممكن من المواطنين كعمال وموظفين فى مختلف القطاعات الحكومية لكي يتقاضو رواتب (وبذلك يصلهم نصيبهم من ثروة بلادهم بطريقة شريفة بدلا من اللجوء إلى تقسيم بعض المعونات عليهم ووصفهم بالفقراء). كما أن هـذا الإجراء من شأنه أن يقوي لدى كل مواطن حس المواطنة وحب العمل.
ب) توزيع مبالغ مالية (عينية) بكل إحترام وتقدير (بدون تسميتها بمساعدة للفقراء) لكل من لم يحظ بإيجاد عمل أو وظيفة ولا يزاول عملا تجاريا يكفى لتلبية حاجاته الضرورية.
4 - خطة لتوسيع القاعدة الضريبية: قد يبدو للطبقة المتوسطة أن توسيع القاعدة الضريبية شيئ سيئ ، أولا: لأنهم ليسو على إقتناع من أن الأموال التى تؤخذ منهم تصرف فى مصلحة المواطن، وثانيا: لأنهم لا يرون أنه من العدالة أخذ المال منهم وهم المحتاجين إلى كل أوقية من أموالهم. ولكنهم بعملهم هـذا يعطون للأغنياء فرصة رفض دفع مستحقات الدولة عليهم، الشيئ الذى ينقص من مداخيل الدولة وبالتالى عدم قدرتها على الوفاء بإلتزاماتها إتجاه مواطنيها بصورة عامة. أما إذا فرضت الدولة الضرائب، والإتاوات، والرسوم إلى غير ذلك على كل المواطنين فإن ذلك من شأنه أن يزيد دخل الدولة وبالتالى يزيد قدرتها على الإستثمار وتوزيع الفائض على المواطنين ذوى الدوخول المتوسط. 5 - وصفة لبناء نظام صرف صحى فى العاصمة أنواكشوط فى أقرب الآجال: تهدف هـذه الوصفة إلى بناء نظام للصرف الصحى فى كل عواصم ولايات الوطن، وكذا المقاطعات، وحتى التجمعات الصغيرة. وإذ أركز هنا على المدن الكبيرة مثل أنواكشوط وأنواذيبو، إلا أننى أصر على البدء فى التفكير فى بناء نظام للصرف الصحى فى القري الصغير وحتى فى الأرياف، لكي لا يعانو سكان هذه القرى، عندما تصبح مدنا الكبيرة . ولكن الشيئ المبشر فى هـذه الوصفة أنها بعكس إشكالية الفساد، فإن بناء نظام للصرف الصحى لا يتطلب تغيير عقلية ولا رقابة وإنما يتطلب موارد ، و معدات، وقليل من المهارات بالنسبة لليد العاملة، بالإضافة إلى إرادة قوية لإنجاز هــذا المشروع الصخم والمهم. وإذا قارنا إنجاز هـذا العمل بحفر قناة السويس فى مصر، مع إعتبار التناسب بين مقدرات مصر إبان الحفر الأول، مع حجم المشروع فإننا سنلاحظ أن مشروع بناء نظام للصرف الصحى فى أنواكشوط فى متناولنا. وإذا إفترضنا جدلا أن تكاليف المشروع تفوق الموارد التى يمكن أن نخصصها للمشروع، فإننى أرى أنه من اللزم إعلان "حالة الطوارء" كما فعلنا إبان "فيروس – كورونا" لكي نجذب الممولين من الخارج ومن الداخل، فالأمر لا يقل أهمية عن جائحة "كورونا" ، لأن الأمر يتعلق بوجود "حفرة " مليئة من نفايات المراحيض فى كل منزل فى العاصمة، ويا ليت هـذا كان ليوم أو يومين! لكنه وللأسف منذو إنشاء العاصمة سنة 1958 ومازال الحال على ما كان عليه حتى يومنا هـذا. أما فى حالة وجود نظام للصرف الصحى فإن بصقة فى حمام أحدنا قد تصل خمسين كيلومترا قبل أن يرجع المتبصق إلى مضجعك. ولك أيها القارء أن تتصور مدى خطورة الموقف .
والله ولي التوفيق.
----------------
السالك ولد السنهورى
لويزفيل ، كنتاكى، الولايات المتحدة الأمريكية.