منذ اعلان الإستقلال في الثامن والعشرين من نوفمبرتشرين الثاني عام 1960, والطريق إلي القصر الرمادي يأخذ منحنايات تنحني معها الحياة السياسية والإقتصادية في موريتانيا خلال الإثنين وخمسين عاما هي عمر الدولة الموريتانية,
بدي الطريق واضحا في بداية المسار, كما رسمه المستعمر الفرنسي وسلمه لأول من سلكه أبا للأمة الموريتانية الرئيس الراحل, الأستاذ المختار ولد داداه. لكن الطريق الذي عبده الفرنسيون إلي القصر الرمادي لم يكن مصفحا ولم يُكسوه سترة واقية من الرصاص وسياسات العسكر, لذالك بدأت ارهاصات تغيره مبكرة, وبالبزة العسكرية . ثمانية عشر عاما كان تكفي ليبلغ البلد سن الرشد السياسي ويشهد أول انقلاب عام 1978, بقيادة المقدم المصطفي ولد محمد السالك وبمباركة من للجنة العسكرية للإنقاذ الوطني التي اعلنت تمسكها بزمام الأمور.
لم يشفع للرئيس لمختار تضحياته من اجل بناء الدولة ولا انجازاته التي كان من ابرزها حتي تلك اللحظة: تأميم شركة ميفرما و انشاء العملة الوطنية وتعبيد طريق الأمل, من أن يكون أول من يتجرع كأس الإنقلابات.
للجنة التي رأت في مواصلة الرئيس المختار الحرب علي الصحراء الغربية مبررا كافيا للإنقلاب عليه, مارست ضغوطها علي الرئيس الجديد للدولة المقدم المصطفي ولد محمد السالك للتنحي عن السلطة وهو ما تم في الثالث من يونيو عام 1979 ليتولي مقدم آخر هو محمد محمود ولد احمد لولي ادارة البلاد.
وتوالت اللجنة في تبادل رئس هرم السلطة بين, قادتها ليصل الدور إلي رجل المرحلة الأقوي المقدم محمد خومه ولد هيداله. قاد الرجل البلاد لمدة أربع سنوات طبق خلالها الشريعة الإسلامية وقام فيها بإلغاء الرق ، كما أسس حينها ما عرف بنظام هياكل تهذيب الجماهير كنظام يجسد حكم الشعب بالشعب. لكن القبضة الحديدية التي حكما بها ولد هيدالة جعلت حكمه يشهد بداية ما يعرف بالدولة البوليسية حيث قام بقمع الحركات الوطنية القومية آنذاك ليظهر للساحة ما يعرف بشعر السجون, مما عرض حكمه لمحاولات انقلابية عديدة كان أبرزها انقلاب 16 مارس عام 1981 ولذي تم اعدام قادته رميا بالرصاص .
في هذه الجو المشحون والمتأزم من تاريخ البلد, كان لابد من اجاد حل سريع وناجح لوضع حد لحكم الرجل, ولعجز لقوي الداخلية عن ايجاده كان لابد من الإستعانة بالصديق الفرنسي. فبعد الزيارة التي قام بها الجنرال ًجان لكازً المعروف بمهندس الانقلابات في إفريقيا إلى مورتانيا وبينما كان المقدم محمد خونه ولد هيداله يمثل بلاده في القمة الافرنكفونية في بوجنبوره جاء انقلاب 12/ من ديسمبر، بقيادة العقيد قائد الأركان معاوية ولد سيد أحمد الطايع.
العقيد الذي سيحكم موريتانيا خلال الأحدي والعشرين سنة القادمة, بدأ مشواره الرئاسي بتفريغ السجون في إطار ما سمي حينها بالعفو الشامل, مركزا في بداياته على إنعاش الوضعية الاقتصادية المتردية.
لكن نقطة التحول في مساره الشخصي كرئيس للبلاد ولموريتانيا كدولة, جاء عام 1986, حين نظمت أول إنتخابات للمجالس المحلية على مستوى عواصم الولايات.
تحول ساهمت فيه تداعيات الوضع الدولي بعد انهيار الإتحاد السوفيتي وحرب الخليج وهيمنة القطب الواحد وظهور ماعرف بالنظام العالمي الجديد, ولعب فيه اطر ومثقفي البلد دورا كبيرا, ليعلن ولد الطايع الاستفتاء على دستور 20 يوليو عام 1991م كدستور يكفل الحريات العامة ويجسد التعددية السياسية, لكن هذا التحول بلغ زروته عام 1992 بتنظيم انتخابات رئاسية متعددة, فاز فيها العقيد بنسبة 67في المائة وسط تشكيك من ابرز منافسيه أحمد ولد داده.
وبعد اكمال الرجل للمسلسل الديمقراطي بتنظيم انتخابات تشريعية بدأ تركيزه تتجه إلى إقامة علاقات مع إسرائيل في ظروف إستثنائية كان ابرز ها تعرضه لضغوط خارجية بسبب تهم تتعلق بحقوق الإنسان علي خلفية ما بات يعرف بملف الإرث الإنساني, شهدت البلاد خلال فترة ولد الطايع نهضة شاملة تركزت أساسا في مجال الاتصالات والبني التحتية, لكن السنوات الأخيرة من حكم ولد الطايع شهدت انفلاتا امنيا واحتقانا سياسيا واعتقالات شملت رجال دين وسياسة كانت محفزا لمحاولات انقلابية أبرزها محاولة 9 من يونيو عام 2003 والتي قادها الرائد صالح ولد حننا ورفاقه في تنظيم فرسان التغير.
تغير لم يكتب له النجاح وزج بفرسانه في سجن واد الناقة, لكنه نجح في هز فوارس الرجل وافقده السيطرة على البلد لمدة يومين, لم يعد بعدها قادراعلى تهدئة الوضع خصوصا بعد فاجعة لمغيطي وغليان الشارع الرافض للعلاقات مع الصهاينة وضغوط الحركة الإسلامية في الداخل بعد اعتقال رموزها وخاصة الشيخ محمد الحسن ولد الددو.
في هذه الأثناء كان ضباط من الجيش يعدون العدة للإجازة علي نظام ولد الطايع خلال زيارة كان ينوي لقيام بيها إلي مدينة النعمة شرقي البلاد, لكن وفاة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز, عجلت بالمشروع, ليجد العقيد ولد طايع نفسه خارج الحلبة في الثالث من أغشت عام 2008 اثر انقلاب قاده مدير أمنه العقيد اعلي ولد محمد فال وقائد حرسه الخاص محمد ولد عبد العزيز.
وكأن التاريخ يعيد نفسه ويعيد الدولة إلي سبعينات القرن الماضي وهي التي طنت أنها تجاوزته بإنفتاحه الجديد علي الديمقراطية, المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية يعلن سيطرته على البلاد برئاسة العقيد أعل ولد محمد فال ، ولأن الأخير خرج من رحم نظام ولد الطايع فقد أراد أن لايغوص في دهاليز حكم دام 21سنة وكان من ابرز شخصياته النافذة, فتبنى مبدء العفو عما سلف. معلنا حل الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ وتسوية ملفات كانت شائكة كملف فرسان التغيير والجماعة الاسلامية ، وحظى بقبول دولي واسع ، بعدما تعهد بإجراء انتخابات نزيهة وشفافة دون ان يشارك فيها ولا أي من أعضاء حكومته أو مجلسه الحاكم في فترة لاتتجاوز أربعة وعشرين شهرا تم تقليصها الي تسعة عشر.
وفي 11 مارس 2007 م بدأت الانتخابات الرئاسية والتي شهدت رقما قياسيا في عدد المترشحين وصل 19, حسمت في شوط ثاني فاز فيه المرشح المستقبل سيد محمد ولد الشيخ عبد الله علي حساب رئيس حزب تكتل القوي الديمقراطية أحمد ولد داداه. ليشهد قصر المؤتمرات في 19 من ابريل من نفس السنة جفل تسليم السلطة للرئيس المنتخب من طرف رئيس المجلس العسكري اعلي ولد محمد فال في مشهد غير مألوف محليا وعربيا.
الرئيس المدني الذي سلك طريقا مغايرا لسابقة إلي القصر الرمادي بدأ فور وصوله إلى السلطة في تنفيذي برنامجه الانتخابي ، فباشر بحل قضية من أكبر القضايا وأكثرها تعقيدا هي قضية المبعدين وضحايا الإرث الإنساني وتجريم العبودية وملف السلفية.لكن لاضطرابات السياسية والأمنية الخطيرة ، بدأت بالإرتفاع الجنوني للأسعار فثورة الجياع لتأتي كارثة الطينطان كدليل علي عجز الرئيس عن اتخاذ قرار حاسم الحل هذه المشاكل.
عجز انتج خلافا بين ولد الشيخ عبد الله وقادة الجيش في ما عرف لاحقا بأزمة الجنرالات لتتصاعد الأزمة السياسية إلا أنها هذه المرة من تحت قبة البرلمان حيث قدم نواب من الأغلبية ملتمسا لحجب الثقة عن حكومة ولد الواقف.
وفي الساعات الأولى من صبيحة السادس من أغشت 2008 حدث ما لم يكن في الحسبان إذاعة خبر إقالة ثلاثة جنرالات من الجيش وتعيين آخرين, قرار فاجئ به الرئيس الرأي العام ، ولم يستطيع زعيم الحرس الرئاسي وقائد القوات الخاصة لرئيس الجمهورية أن يستوعب القرار وبقدر ما تفاجئ الموريتانيون بقرار رئيس الجمهورية فقد فاجئ قائد الحرس الرئاسي العالم بإعلانه الإطاحة بالرئيس ، المجلس الأعلى للدولة بقيادة الجنرال محمد ولد عبد العزيز يستولي على الحكم ، ليدخل البلد في دوامة من الصراعات الداخلية انقسم فيها الطيف السياسي على نفسه بين مؤيد لما يعتبره تصحيحا للمسار الديمقراطي ، و من يعتبر ما حدث انقلابا غير مبرر على الشرعية وشكل أصحاب هذا الاتجاه ماسمي بالجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية مطالبين بعودة الرئيس المنتخب.
وخلال محاولته الرجوع بالبلاد الي نظام الديمقراطية الذي ما فتئت تخرج عنه تحت وطئة الدبابات ولمدرعات العسكرية, دعي الجنرال إلي منتديات عامة شاركت فيها كل الأحزاب السياسية وهيئات المجتمع المدني وقاطعتها جبهة الدفاع عن الديمقراطية التي التحقت بها بعد اتفاق داكار.
اتفاق داكار وان كان جاء متأخرا إلي انه ساهم في وضع حد للأزمة السياسية وساهم في تنظيم انتخابات 6-6 التي تأخرت حتي الثامن عشر من يونيو نتيجة الإتفاق.
وبين ما كانت المفاوضات جارية علي قدم وساق بين الفرقاء في داكار, أعلن الجنرال علي الضفة الأخري من النهر إستقالته من الوظائف الحكومية تمهيدا لترشحه للإنتخابات الرئاسية ليتولى بعدها رئيس مجلس الشيوخ باممادو الملقب امبارى رئاسية الجمهورية بالنيابة.
انتخابات شارك فيها عشرة مرشحين, وانقسمت فيها جبهة الدفاع عن الديمقراطية على نفسها بين مرشح التحالف الشعبي التقدمي رئيس الجمعية الوطنية مسعود ولد بلخير ورئيس حزب تواصل محمد جميل منصور. لتأتي النتائج مخالفة لكل توقعات المعارضة, حاسمة النتجة ومعلنة فوزمحمد ولدعبد العزيز بنسبة أكثر من اثنين وخمسين بالمائة. لتخرج موريتانيا من واحدة من أكبر الأزمات التي مرت بها في تاريخها السياسي الحديث واكثرها تعقيدا، ليشهد قصر المؤتمرات في نواكشوط علي منعطف جديد من الطريق إلي القصر الرمادي في 06 أغسطس 2009م, في حفل جماهيري تم خلاله تنصيب محمد ولد عبد العزيز رئيسا لولاية دستورية مدتها خمسة سنوات.
ليدخل الرجل القصر الرئاسي بزي مدني وهو الذي عرفه في زيه العسكري حارسا خاصا للرئيس ورئيسا عسكري منقلب.