التمَلُّق قديم قدم البشرية، وموجود في كل المجتمعات على مرّ العصور، يثور حيناً ويخمد حيناً آخر، ولعله ثار في عصر ابن خلدون، الذي تبنى هذه الآفة، فأعلن أن التَّمَلُّق أساس للحياة السعيدة، والأداة الفضلى لتحصيل الجاه والمال! وأحسب أن هذا الإعلان، من عالم مشهور، ومفكر ودبلوماسي، كابن خلدون، وفي أهم كتبه: "المقدمة"، قد شكل، مساهمة متقدمة في تخطي التَّمَلُّق الفردي إلى التَّمَلُّق الجمعي، وبالتالي، مزيداً من إضاعة الحق وانهزام العدل، ومزيداً من الانسحاب للأخلاق الحميدة، والفطر السوية، ومزيداً من النفاق الاجتماعي. لا بل، قد نجد، في بعض الحالات، أن المُتَمَلِّق أخطر على المجتمع من المنافق، خاصة حين يقتصر ضرر المنافق على نفسه، فلا يُظهر نفاقه بشكل جليّ، فيبقى على المستوى الفردي، أما المُتَمَلِّق فسلوكه انتهازي ظاهر، ويتقبل الإهانة، ويضرب بكلامه على الوتر الذي يرضي المُتَمَلَّق له، في محاولة، غالباً ما تكون مفضوحة، لإخفاء الحقيقة وتغليفها بغلاف زائف، فيتعدى بذلك ضرره إلى المجتمع ككل. أما المجاملة والمديح والتودّد، فهي صفات مطلوبة بين الناس للتحبّب والاستئناس، فإن تخطت حدود الفطرة، اختلفت حينئذٍ النوايا والمقاصد، فتؤدي إلى عكس ما يجب أن تعطيه من نتائج، إذ تنقلب إلى كذب وافتراء، فتصبح حينئذٍ من عناصر التَمَلُّق، يتعذّر معها التعبير عن الآراء الصريحة التي تخدم السلوك الاجتماعي السوي، وتؤدي إلى تذبذب في الأحكام والمواقف بين الواجب والمصلحة، والحق والهوى! وهناك رأي يقول: إن قليلاً من التَمَلُّق يصلح الحياة .. فوجدتها على وزن: "قليل من الخمر يفرح الفؤاد"!
إن التَمَلُّق داء ليس له دواء سوى فضح المتصفين به، وإحباط مكرهم، ولا يقوم بهذه المهمة إلا من اتصف بصفات مضادة لصفات المُتَمَلِّق، كالصراحة، والجرأة في قول الحق، والاستعلاء عن الدنايا من الأخلاق الوصولية النفعية الآنية .. وللعلماء والدعاة، والقادة والسياسيين، والمفكرين، دورٌ كبير في الحد من هذه الآفة التي استشرت، ورسخت في كل زاوية من زوايا بلادنا في العشريه .
أصبح الطالب متملقا لأستاذه من أجل نيل نقاط غير مستحقة. وأصبح العامل متملقا لمديره من أجل الحصول على علاوة أو ترقية أو عمل مريح. وأصبح الوزير متملقا لرئيس الحكومه أو رئيس الدوله من أجل أن يحظى بالعطف المالي واللوجيستي وأصبح المعارض متملق من أجل دعم و.. وأصبح المرشح في الانتخابات متملقا للجهة المسؤولة عن مراقبة تلك الانتخابات، من أجل دعم ترشحيه والمساهمة في حملاته الانتخابية. وأصبح رئيسنا متملقا لرئيس دولة اخري من أجل دعم جبروته على شعبه، ودعم استمرار نظامه المستبد.. وهكذا انتشر وباء التملق طلة العشريه الذي أتى على مفهوم الديمقراطية، وأفرغها من حمولتها. ليتم ملأها بمبادئ وقوانين ومفاهيم مزيفة..زادت من أوضاع هذا الشعب الفقير، وكرست مفاهيم مغلوطة وثقافة التملق ومحاربة القيم والمبادئ الموريتانيه الشرقيه.
استفحال التملق في العشريه، أفقد التعليم والتكوين أهدافهما، وجعلهما محطات عبور أو جسور ليس إلا، تنتهي بسالكيها إلى الانحراف والبطالة.. فمن تحلى بثقافة التملق والصبر الطويل على امتصاص كل أشكال الحقارة، قد يجد له منفذا لطريق الشغل.. ومن عاش يلهث وراء حقوقه المشروعة، طال انتظاره. وحرس على ترسيخ مفاهيم الشرف والعفة.. ربما قد تأتيه المنية قبل أن يحظى بتلك الحقوق..
ويبقى المتملق حاضرا بيننا يدافع عن عشريته... مواطنا بكل معني الكلمه ...متدينا سياسيا وكاتبا ومثقفا ويجد من يناصره ويقف معه وأخطر تملق هو تملق المثقفين .
لكن درجة انتشار هذا الوباء تختلف من شخص إلى أخر... ويبقى المتملق الموريتاني حاضرا بقوة. مستعدا لإفراز تملقه بسخاء وصخب دون خجل أو ملل..مدافعا عنه وبأقوي الاساليب
عندما يصل مستوى التذلل والانحطاط الشرفي للإنسان، إلى درجة استجداء حقوقه والتوسل من أجل نيل مطالبه المشروعة. وقضاء الساعات أمام المرافق العمومية في تسولها، فاعلم أن ذلك الإنسان مريض بوباء (التملق)، وأنه لا يصلح لأي عمل أو مهمة. وأنه لابد من العمل أولا على علاجه من ذلك الوباء. قبل التفكير في تكليفه بأي عمل أو منحه أية مسؤولية. واعلم أنه كلما زاد عدد هؤلاء المتملقين داخل بلد ما، فإن آفة التدهور والانحطاط ستظل ضاربة في عمق هذا البلد. وأن هؤلاء المتملقين هم في طريقهم لنزع كل ما ينبض بالحياة داخل ذلك البلد. وأنهم أعلنوا عن استحالة توفير العلاج لهذا الوباء، وأكدوا بداية احتضار الشعب بأكمله...