طُلب مني قبل أيام إلقاء كلمة قصيرة تحت عنوان: " سبل مواجهة قانون النوع من خلال مؤسسة المسجد"، وقد وُفِّق القائمون على ملتقى الأئمة والخطباء في اختيار الموضوع، وصياغة العنوان..وأثناء التحضير لإلقاء الكلمة توقفت عند عبارة " مؤسسة المسجد"، ووجدت أنها مفتاح أي مواجهة عقدية أو اجتماعية تخوضها الأمة ومصلحوها، وأدركت أن مواجهة قانون النوع أو غيره من الانحرافات لا يمكن أن تتم عن طريق المسجد فقط، بل لا بد لها من المسجد المؤسسة.
فما الفرق بين المسجد والمسجد المؤسسة؟ وهل بلداننا بحاجة إلى المسجد المؤسسة؟ ثم ما وظائف المسجد المؤسسة؟
كان المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعهد السلف الصالح رضوان الله عليهم مؤسسة عمومية شاملة شموليةَ الإسلام لجميع مناحي الحياة، ولم يكن قاصرا على أداء الصلوات الخمس والجمعة فقط، ففيه كانت الوفود الخارجية تجتمع، وبه كانت تُعقد ألوية الجنود، وفيه كانت تُستقبل جموع الفقراء ومن لا مأوى لهم، ومِن على منبره كانت تُلقى الخطب السياسية والوعظية والعلمية، وفيه تَربَّى جيل الصحابة الفريد، وحمل هم الدعوة إلى الله عز وجل في آفاق الأرض،وفيه...، وفيه...
أما في واقعنا المعاصر فقد اقتصرت وظيفة المسجد على أداء الصلوات، وربما أُضيف إليها في بعض المساجد إلقاء درس أو عقد حلقة حديثية أو قرآنية دون تنسيق أو تنظيم جماعي.
نعم، لقد تغيرت الأوضاع السياسية والاجتماعية والتعليمية، وأُنشئت المدارس والجامعات، وفتحت الجمعيات الخيرية، وصارت لكل مؤسسة تخصصها، لكن، هل تغني هذه المؤسسات عن وظيفة "المسجد المؤسسة" الجامعة؟ أبدا، فوظيفة المسجد أعظم من هذا وأشمل، وتأثيره أقوى وأكمل.
وحتى يكون المقال قريبا من المجال العملي، بعيدا عن المجال النظري المحض، أذكر وظائف المسجد المؤسسة؛ لندرك الفرق البيّن بين المسجد والمسجد المؤسسة، ونوضح الوظائف المفترضة لإقامة المسجد المؤسسة، لعل بعض أئمتنا يحذو حذوها، ويسعى إلى إقامة مؤسسة المسجد.
والحق أن المجتمع خسر كثيرا بسبب فقدان مساجدنا جانبها المؤسسي. وكل من يتساءل عن سبب ضعف تأثير المسجد في العصور المتأخرة، لعله لم يدرك بعد أن السبب هو الانتقال من المسجد المؤسسة إلى المسجد فقط، وهذا أمر للحكومات المعاصرة يد فيه؛ لأنها لا تريد لمؤسسة المسجد أن تنافس باقي مؤسسات الدولة، وخاصة المؤسسات المتعلمنة التي تعمل على فصل الدين عن الدولة والمجتمع، وجعله شأنا خاصا لا تأثير له على الفعل و العقل الجمعي.
حسنا، يمكن تقسيم صفات ووظائف " المسجد المؤسسة" إلى مجالات عدة، وكل مجال يحوي عدة وظائف، وسأقتصر في هذه العجالة على ذكر نماذج فقط تصلح للتمثيل دون استيعاب لجميع الوظائف، وأحسب أن فيها كفاية لمن أراد تأسيس "المسجد المؤسسة"، وإعادة المسجد إلى سالف عهده المجيد.
* المجال الإداري:
ما دام المسجد مؤسسة، فإنه يتطلب إدارةً وحسن تسيير، ويكون ذلك من خلال ما يلي:
- إعداد هيكلة إدارية واضحة، يكون الإمام رئيس مجلس تسيير المسجد، ونائبه المؤذن، واختيار أعضاء المجلس من بقية جماعة المسجد.
- العمل بمبدأ الشورى الإسلامي، فلا يستبد الإمام برأيه، ولا يصادَرُ رأي الإمام، وإنما يكون الأمر شورى بين أعضاء مجلس تسيير المسجد. وتحقيقا للشورى في المسجد المؤسسة، ورد النهي الأكيد والوعيد الشديد على من صلى إماما بقوم وهم له كارهون، فاختيار الإمام وبقية أعضاء المجلس ينبغي أن يكون جماعيا، وباتباع آلية شورية محددة.
- وضع خطة فصلية أو سنوية محددة الأهداف، واضحة المعالم، مبينة الوسائل، ويعمل المجلس على تحقيقها ومتابعة تنفيذها ثم تقويمها.
* المجال العلمي:
من أهداف المسجد وأغراض تأسيسه تعليم الناس أحكام دينهم، ولذا ينبغي في هذا المجال القيام بما يلي:
- تأسيس محضرة قرآنية داخل المسجد لتعليم الصغار، وخاصة أبناء المدارس خلال الفترة المسائية؛ لأنه يلاحظ في الفترة الأخيرة أن كثيرا من تلاميذ المدارس يتفرغون للمدرسة..وتوفير محضرة في مسجد الحي أو قريبا منه، سيساعدهم على الجمع بين المحضرة والمدرسة.
- إقامة حلقات علمية داخل المسجد لتعليم الكبار أحكام الفقه، ومبادئ العقيدة، وغير ذلك من المسائل التي يحتاجها عامة الناس.
- إقامة حلقات علمية خاصة بالنساء على غرار حلقات تعليم الكبار.
* المجال الدعوي والتربوي:
هذا المجال غير بعيد من سابقه، لكنه متخصص في شأن التربية وفقه الواقع، ويمكن تحقيقه من خلال ما يلي:
- بناء بيئة دعوية وتربوية داخل المسجد جاذبة لأهل الحي من مختلف الأعمار، وتحوي أنشطة متنوعة.
- إقامة دروس دعوية ثابتة تعالج مواضيع واقعية.
- إقامة مسابقات تربوية وعلمية، بل ورحلات ترفيهية إذا تيسر الأمر، ينظمها شباب المسجد، ويشارك فيها أشباله، بإشراف بعض شيوخه.
- إعداد ملصقات ومجلات حائطية في المسجد، تُنشر فيها مقالات تربوية وتوجيهية.
* المجال الاجتماعي:
يعتبر هذا المجال من أهم المجالات، رغم أن غالب القائمين على المساجد لا يكاد يهتم به، وربما اعتبره بعيدا عن وظيفة المسجد. والحق أن هذا المجال كان من المجالات المهمة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وتشهد لذلك نصوص ووقائع عدة، ليس هذا مجال سردها.
وعموما يمكن تحقيق أهداف هذا المجال من خلال ما يلي:
- إقامة لجنة اجتماعية هدفها إحصاء الأسر المحتاجة في الحي.
- إنشاء قسم لإصلاح ذات البين، وخاصة بين الأزواج.
- إشاعة التعاون بين أهل الحي، وتبادل الزيارات بينهم في حال الرخاء والشدة.
* المجال المالي:
القيام بشؤون المسجد يتطلب الحصول على المال من أجل تسديد النفقات والمصاريف المطلوبة وهو ما يتطلب:
- إنشاء ميزانية خاصة بالمسجد، وجمع التبرعات من قبل أثرياء الحي، ولا بأس أن تُجمع من قِبل رجال أعمال وأثرياء من خارج الحي.
- إعداد خطة مالية واضحة لتسيير الميزانية، يراعى فيها حجم الميزانية، ومتطلبات الإنفاق، ومجالات عمل المسجد السابقة، بحيث يخصص لكل مجال مبلغ يتناسب مع أهميته وحجم تكلفته.
تلكم كانت مجموعة من النقاط والمقترحات، أوردتها من قبيل التمثيل فقط، وإلا فإن لكل مجلس إدارة مسجدٍ حق النظر في المجالات التي يحتاجها، وطبيعة الوظائف التي يجب عليه القيام بها.
والمقصود: التنبيه إلى أهمية "المسجد المؤسسة" وضرورة الانتقال من المسجد إلى المسجد المؤسسة.
والله الموفق.