شاركت يوم الخميس 20-12-2012 في نقاش دار بين الشيخ راشد الغنوشي وبين مجموعة من النخبة السياسية والثقافية وقد كادت الخصومة العقيمة بين الإسلاميين وبين القوميين في موريتانيا وحساسية الطائفتين من كلمة "العلمانية" تفسد هذا النقاش،
مما جعل بعض الحاضرين يزج بالشيخ راشد الغنوشي في هذه الخصومة العقيمة ناسين أن الشيخ حليف سياسي للعلمانيين في تونس وأن خطابه أكثر "علمانية" من خطاب جميع التيارات القومية في موريتانيا...
وقد قلت حينئذ وأكرر أن الشيخ راشد الغنوشي ممن انتشلوني من ضيق الفكر الإيديولوجي المحدود، إلى سعة الفكر الإنساني الرحب، حيث لم أعد أقبل تقليد مفكر بعينه أو التقوقع في فهم مدرسة خاصة، أو أنظر إلى تأويل النص الديني في فترة تاريخية محددة باعتباره حجة ملزمة للمسلمين في فترة تاريخية مغايرة لها، أو استنكف من قراءة ما تفتقت عنه عبقرية مبدع حيثما كان، أو أنتجته مدرسة ما في هذا العالم الفسيح، مهما كان اختلافي العقدي معها... بينما كنت قديما كلما قرأت فقرة من كتاب لمفكر علماني – رغم انني لم أكن أعرف عن العلمانية إلا ما يقوله الإسلاميون عنها - أتوقف عن القراءة بسرعة مخافة أن ينتزع مني العلمانيون إيماني بالله وعقيدتي الإسلامية أو تصيبني لوثة من فكرهم فتدخلني النار...
أما اليوم فإنني استمتع بالقراءة للعلمانيين وللا دينيين لأنهم يقدمون لي تفسيرا للكون ورؤية للوجود تختلف اختلافا جذريا عن التفسير الذي أومن به انطلاقا من عقيدتي الإسلامية وفهمي للقرآن الكريم. لأن هذا الاختلاف في الرؤية الفلسفية وفي المرجعية الفكرية يمنحني لذة التفكير وتمرين العقل عندما أجدني ملزما بالبحث عن أدلة جديدة أثبت بها عقيدتي ورؤيتي للكون؛ بعد أن يتحول أقوى ما عندي من أدلة دينية عند العلمانيين واللادينيين إلى مجرد دعاوى أوأساطير يتعين علي أن أبحث عن أدلة أخرى لإثباتها بها...
إن كل فلسفة تحمل تفسيرا للوجود جديرة بأن تقرأ ويستمع إلى أصحابها وهو منهج قرآني أصيل، ومن يكتفي بما ورثه عن آبائه من فكر من غير أن يقف على ما عند الآخرين من فكر مغاير، مجرد مقلد جعلتمنهالبيئة الثقافية مؤمنا بالميلاد، ولا يأمن أن يقال له ذات يوم وما أدراك أن ما تفتخر به من تفسير للكون موروث عن آبائكمقارنة بما توصلت إليه الفلسفة من تفسيرات للكون مثل ما ورثته عنهم من وسائل النقل والاتصالات البدائية مقارنة بوسائل النقل والاتصالات الحديثة.
ثم إن الحقيقة بطبيعتها لا يمكن أن تورث عن الآباء؛ لأنها قناعة شخصية يتوصل إليها كل فرد بجهوده الذاتية بعد معاناة معرفية ومقارنة شاقة بين الشيء ونقيضه، واختبار مستمر لما استقر عليه العقل كيلا يكون قد أخلد إلى وهم كاذب بسبب تقليد أعمى أو قصور في منهج البحث أو تقصير في إعمال الفكر. وكل مرحلة تاريخية يكتشف فيها العقل الإنساني مناهج جديدة للتفكير العلمي وأدوات للبحث لم تكن معروفة من قبل لا بد أن تعرض عليها الحقائق القديمة حتى يعرف الصحيح والخاطئ .وهذا ما يحتم على كل باحث عن الحقيقة أن يستمع لما عند الآخر.
أما العقيدة التي يخاف صاحبها أن تنتزع منه فليست عقيدة صالحة لأن تمنحه تفسيرا علميا للكون ورؤية متماسكة للوجود يمكن أن يقدمه للآخر، وإن كان من الممكن أن تمنحه سعادة نفسية كسعادة الأطفال بتفسيراتهم الساذجة للكون، إذ لا علاقة بين صحة الفكرة وبين ما تمنحه لصاحبها من سعادة باتفاق جميع المفكرين مؤمنين وملحدين...
من هنا فإنني أستطيع أن أقول بأن الخطاب العلماني منح الخطاب الإسلامي في مصر وتونس ثراء وصلابة؛ لأن الشعور بالتحدي الفكري والخطر الإيديولوجي كان حافزا معرفيا فرض على الإسلاميين هناك أن يجتهدوا في دراسة المواضيع الفكرية المتنازع عليها بينهم وبين العلمانيين وأن ينتدبوا أقوى مفكريهم للكتابة والتأليف عن الخطاب الإسلامي هناك لتوضيح معالمه والرد على الخطاب العلماني، بينما كان غياب الخطاب العلماني هنا في موريتانيا من أقوى أسباب ضعف الخطاب الإسلامي، مما جعل الإسلاميين الموريتانيين يخلدون إلى الراحة لعدم شعورهم بتحدي فكري يواجههم ويقتضي منهم بناء خطاب إسلامي يقوم على نسق فكري متين، أو إصدار كتب وبحوث تحمل رؤيتهم الفكرية أو ترد على الفكر العلماني..
قد يجادل شخص لا يعرف معنى العلمانية بأن في موريتانيا من يتبنى فكرة فصل الدين عن الدولة، وعلى افتراض صحة هذه المقولة التي لا نجد لها أثرا عمليا في الواقع، فإن فصل الدين عن الدولة ليس سوى عنصر واحد في البناء المعماري للعلمانية .
وسوف أورد مجموعة من الأسئلة التي يطرحها العلمانيون في الغرب وفي العالم يتبين أنه لا يوجد خطاب علماني في موريتانيا لعدم وجود من يطرح هذه الأسئلة:
هل سمعتم أن للعلمانيين في موريتانيا رؤية للكون تختلف عن رؤية الإسلاميين؟
هل سمعتم أن في موريتانيا علمانيا واحدا ينادي بضرورة فصل الدين عن المعرفة وينكر أمور الغيب باعتبارها مجرد "دوغمائيات" لا تمكن البرهنة عليها، أو يدعو إلى ضرورة المساواة التامة بين الرجل وبين المرأة في الميراث ؟؟؟
وهل سمعتم أن علمانيا موريتانيا يقول بأن فكرة التدين برمتها هي مجرد خيال بشر تواقين إلى أن يظلوا جزءا دائما من الكون فابتدعوا فكرة الحياة الآخرى؟
وهل سمعتم ان علمانيا موريتانيا يقول بان عقيدة التوحيد هي مجرد تطور من عقيدة التجسيم في فترة طفولة العقل البشري إلى عقيدة التجريد وفق فكرة التطور عند داروين؟
هل سمعتم أن علمانيا موريتانيا يقول بان نظام الأسرة في موريتانيا هو مجرد نظام أبوي لا علاقة له بالدين وانه لا بد من تدميره؟؟؟
بل هل سمعتم أن علمانا موريتانيا يدعو إلى ضرورة شطب جميع الحدود من قانون العقوبات في موريتانيا مع أن بعض المفكرين الإسلاميين يدعون إلى ذلك اجتهادا منهم؟
إنني لم التق في حياتي بعلماني واحد بالمعنى الحقيقي للكلمة في موريتانيا وعلى افتراض وجود علمانيين في موريتانيا فإن مشكلة موريتانيا ليست الصراع بين العلمانيين والإسلاميين بل هي مشكلة الفقر، والبطالة، والأمية، ورداءة التعليم، وغياب التنمية، وضعف البنية التحتية، وعدم نفاذ المواطنين إلى الخدمات العمومية، والفجوة الرقمية، والتفاوت الاجتماعي.
فلماذا الخلاف بين الإسلاميين في موريتانيا وهم دعاة الإسلام وبين القوميين وهم حماة اللغة العربية وفيهم العباد والزهاد؟ هل هو خلاف فكري؟ أم صراع من أجل احتكار عناصر الهوية الوطنية وجعلها ملكا خاصا؟ أم هي خلافات سياسية وشخصية لا علاقة لها بالدفاع عن الإسلام ولا بالغيرة على اللغة العربية؟
وما الذي يتوجب على الموريتاني العربي المسلم فعله إن أراد الانتماء إلى حزب قومي أو الانخراط في حزب إسلامي حتى نعرف الفرق بين هذين التيارين؟